صة , الفتاة الصغيرة لأميمة الخميس
كان فم الفتاة مليئا بالسحر، فهي حين تهمس (( نخلة)) يتحول الهواء الخارج من فمها إلى نخلة صيفية طافحة بالعذوق مترنحة بالوجد . و عندما تلفظ (( شمس )) فإن جدران الغرفة التي تقبع بها تلمع بشدة بسبب التماع ضوء شمس باهرة تكورت من فم الفتاة الصغيرة .
و عندما تلفظ (( بيت ))، فإن هناك بيتا صغيرا ، تتغلق أبوابه أمام عتمة المساء، بينما نوافذه تشع حميمية أشواق عائلية في آخر النهار. كانت الفتاة حينما تنطق (( النهر))، فإنه يتلاطم نهر كبير ، تتقوس فوقه الجسور تمخر المراكب الشراعية الصغيرة والتي تطلق صافراتها ليؤذن لها بالمرور. زهو الفتاة و فرحتها ، جعلاها لا تحس بضيق المكان إلا متأخرة ، فالنهر حينما ينبع من بين أسنانها فإنها يجب أن تتوخى له المنحدر المتسع الملائم الذي يجعل جسده يسجي بكل عظمته و جلاله أمامها .
بينما يجب أن تحرص قبل أن تلفظها الشمس أن تغطي الأشياء القابلة للاحتراق في الغرفة حولها قبل أن تتكور الشمس و تلهبها
و لكن النسور أمرها سهل: فهي حين ترفرف من بين شفتيها، نحو السقف تظل معلقة هناك، تقلب أعينها الصارمة حثا عن نافذة تمنح الأفق.
و ابتدأت تعي لوعة المسافات و الحيز ، و عرفت أيضا أن المكان الضيق المكتنز ، جعل الناس ينسحبون من حولها و يتركون لها مكانا مكتظا بالكلمات المتجسدة فقط .
عندها أصبح قلب الفتاة يعم بالوحشة ، و يلح عليها في طلب أصوات بشرية ، تطري وحشة الصمت ، و تضيء الأنوار في الأركان العلوية المعتمة .
و لأنها ظلت لا تتكل لستة أيام، ففي اليوم السابع تحشرجت بصيحة و لفظت: الحل..
و تجسد الحل من فمها على شكل قزم صغير بصوت رفيع حاد كصوت تلامس أوان صينية.
كانت عيناه مستديرتين ، و في غوريهما تلتمع أسرار قديمة جدا ، ذلك منحهما بريق حكمة و سلام ، الأمر الذي جعل الفتاة تطمئن إلى الكتيبات الصغيرة التي يحملها في جيبه الأيسر .
أنا أعلم أنك تفتدينهم، و تتقدي ثرثرتهم، و وشايتهم و أحزانهم المتراكمة، و هياكل آمالهم المجوفة.. تشتاقين تحلقهم حولك و قد امتلأت أفواههم بالحديث المتكسر
و طأطأت الفتاة برأسها كموافقة خجلى على ما يقوله .
فالتقط من جيبه الأيسر كتيبا، غلافه مزدان بالمثلثات البيضاء و السوداء ، قلب في صفحاته ،و استقر على صفحة و قال ا : أنت تبعثين بالكلمات من القلب إلى الفم ، لذا فهي تكتسب قدرة المشيئة فتتجسد ، لذا فكلماتك فبل أن تخرج من غرفات القلب اقسريها على المرور بالدماغ ، فهناك سيهذبها و يشذبها ، تماما كما يحول النجار شجرة يانعة إلى ( قبقاب خشبي )
برقت عينا الفتاة كنجمتين ، و دب في أوصالها الحماسة النشاط ، و لكنها ترددت و سألته :
- هل سراك بعد اليوم ؟
- قال: لا، فأنزيمات الدماغ تفتتني و ستذيبني
و خشية أن يبعثرها الخوف و التردد.. همست :
- نسر ، و عسفتها بقوة نحو الدماغ ، فلما خرجت من شفتيها لم تكن سوى ن – س – ر ، و النهر .. أصبح ن - هـ - ر و الشمس أصبحت ش - م - س، و أخذ ( القزم الحل ) في التلاشي، بعد أن تفوقت الأبجدية العقلانية، و أخذت الكلام من التجسيد إلى التجريد، لكن فيما يروي بعد ذلك أن الفتاة.. أصبحت :
ف – ت – ا – ة .. و من ثم .. ف – ت .. و بعد ذلك ف .. كان ذلك الحرف هو طورها الأخير قبل أن تتلاشى .. بينما كان الناس قد تجمهروا حولها !