عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-08-24, 03:19 AM   #4


الصورة الرمزية عاشقة الدموع
عاشقة الدموع غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 48
 تاريخ التسجيل :  Dec 2008
 أخر زيارة : 2024-04-06 (08:39 PM)
 المشاركات : 43,827 [ + ]
 التقييم :  34274
 الدولهـ
Saudi Arabia
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~
كَانكِ لقَيتِ اللَي تظلِى بظلهَ


اَناِ لقيَت ِاللَي وطاكِ وركعليَ
لوني المفضل : Crimson
افتراضي رد: البحيره السوداء



يتبع


وتجلى في صوته غضب مرير:
" إن كان من امرأة لا أتحملها، فهي المعذبة الباردة الاعصاب "
فشحب وجه كلير ، وقد كرهت النبرة التي استخدمتها ، لكنها جاهدت لتحافظ على خلو التعابير عن محياها .وقررت ألا تسعده بكشف الجرح اللذي سببه لها.
وتمتم باختصار، وعيناه لاتفارقانها:
" أما من تعليق؟ "
وبادلته النظرات من دون أي تعبير .ورغم أنها شعرت أن الكلام بعيد عن السهولة باشواط، الا انها، وبطريقة ما ، تمكنت من القول: " لا "
فقست شفتاه ،وهو يومئ برأسه، ويضيف :
" كما سبق وذكرت، أنت باردة كالجليد ، وتفتقرين الى الانفعال. لقد عانقتني لتثيري غرائزي. تلك كانت نيتك ، أليس كذلك؟ "
عندئذ ، أجابته كلير على نحو فظ:
" لا نملك الوقت لهذا "
فرد من بين أسنانه المطبقة :
" أنت لا تملكين الوقت، أما أنا ، فيبدو أن ، لدي وقت العالم كله .فلن أذهبىالى اي مكان "
" أسمع على لوسي أن تستقل قطاراً الى مانشستر في السادسة من صباح الغد.كما عليها أن توضب أغراضها قبل ذلك. وما زال علي أن أكلمها، لأنها لا تعلم شيئاً عن هذه الرحلة. "
" ألن تحتاج الى تأشيرة دخول؟ "
حاولت كلير ألا تنظر اليه . فكلما وقعت عيناها عليه ، سرت فيها ذبذبات غريبة.
ومالبثت أن قالت بسطحية:
" لقد حصلت واحدة قبل اشهر عدة، وذلك حين سافر مايك الى هناك، كي تزوره ،في حال وفرت بعض المال. "
" وماذا عنه ؟متى ستخبرينه بقدومها؟ "
" لقد سبق وفعلت. "
فأجاب بسخرية باردة:
" أنت تدهشينني. وفيك من السريه ما يفاجئني ، إذ لم تطلعي مخلوقاً على ماتخططين له "
عندها رفعت ذقنها ، متوردة الوجه وقالت له:
" لم أخبره عنك، أو عن تجربة الفيلم. بل اكتفيت بالقول إنها مفاجئة من لوسي، وحذرته من أن يذكر الموضوع سلفاً.انما علي أن اعلمه بموعد قدومها. كي يلاقيها في المطار،ويحجز لها غرفة في فندق قريب "
فعلق بجفاء، وهو يدرسها ، كمن يراقب حشرة تحت عدسة المجهر:
" لقد فكرت في كل شيء، أليس كذلك؟ "
" بل حاولت ذلك. "
وحانت منها التفاتة الى ساعتها ،وقد فرغ صبرها :
" والآن ،هل ستدعني أوثقك بالحزام، أم لا؟ لانك ، إن لم تفعل ، ستبقى مقيد اليدين طيلة الليل "
" حسناً،ضعي الحزام اللعين ، بأي وسيلة كانت "
ثم رفع جسده ،تاركاً إياحا تدس الحزام حول وركيه.
وأعلنت ، من دون أن تنظر اليه:
" قبل أن أنزع الأغلال ، عليك أن تعدني أنك لن تحاول منعي من الرحيل. فعلي أن أرى لوسي الليلة، وأتأكد من أنها ستستقل تلك الطائرة "
فتشدق في كلامه:
" سأعدك مقابل وعد منك ، عديني أنك ستعودين ما إن تسافر لوسي بالقطار غداً صباحا ً"
أومأت برأسها وقالت:
" حسناً،أعدك بأن أعود حالما نودع لوسي في المحطة "
ورد :
" اتقفنا "
لم تكن متأكدة من أن بإمكانها الوثوق به، الا أنها أخذت نفساً عميقاً ، وفكت الاغلال .
ولما سقط ذراعاه، أجفل ، قبل أن يئن ألماً.ومالبث أن راح يفرك ذراعيه.
" يا إلهي ، أعاني أكثر التشنجات سوؤا "
لكن كلير لم تنتظر .فرغم وعده ، قررت ألا تجازف ، وما أن نزعت القيود، حتى نهضت وحملت الهاتف معها، ثم اتجهت الى الباب سريعاً. ومع أنها سمعته جيداً وهو يستقيم ،ويتقلب على السرير، الا انها أيقنت أنها بعيدة عن متناول ذراعيه، فما زال عليه نزع حبل الغسيل عن رجليه المكبلتين. ولا تعد هذه بالمهمة السهلة ، لاسيما أنها تكبدت عناءاً كبيراً ، كي يصعب علي أي كان فك الحبل. وأخيراً قالت من فوق كتفها:
" سأعود في الصباح، فأخلد الى النوم "
وتجاهلت العبارة النابية التي تفوه بها دتزل.
وما أن وصلت الى المنزل ، حتى توجهت الى غرفتها، واستلقت على السرير، من غير أن تبادر إلى تغير ملابسها. راحت تصغي الى الانين المكتوم الذي وصلها من غرفة لوسي ، وبعد دقيقة ، توجهت الى هناك، أدارات زر الكهرباء.
جلست على السرير بجانبها، وتناولت منديلاً من على الطاولة المجاورة ، وراحت تمسح دموع أختها برفق.
" ما بالك؟ سمعتك تبكين. "
فارتعشت شفتاها، ثم انفجرت غاضبة بنبرة لم تعهدها كلير من قبل:
" هل كنت تسترقين السمع مجدداً؟ ألا يمكنني البكاء بسلام في هذا المنزل؟ "
وما لبثت أن بدأت تشكو:
" آه يا كلير...لقد ألغيت تجربة الفيلم، وسيرحل ثانية، ولن أمثل في أي فلم بعد ذلك "
فتمتمت كليير بصدق: " لا يفاجئني ذلك "
ثم تناولت فرشاة من على الطاوله ،وبدأت تسرح شعر أختها الأشعث.
" أظن أن تجربة الفيلم حيلة يمارسها على كل النساء اللواتي يطاردهن. "
ولما كانت لوسي تحب أن يسرح لها شعرها ، فقد خفف عنها ذلك ، وسرعان ماتنهدت :
" كنت محقة بشأنه "
" نعم. "
عندئذ أخرجت بطاقة السفر منجيبها، وأضافت :
" حسناً، يمكنك استعمال هذه إذا أردتِ "
فنظرت اليها لوسي بتعجب وكأنها تتطلع الى أرنب أخرجته كلير من قبعه.
" ما هذا؟ "
" افتحيها وسترين. "
أخذتها لوسي بريب، ثم فتحتها وهي تحاول أن تقرأها :
" رحلة إلى أفريقيا! ولكنني لا أفهم، فالرحلة عند صباح الغد، غير أن ..."
" إن لم ترغبي في السفر غداً يمكنك تغيير الموعد ، شرط أن تخبريهم بالأمر سلفاً.ولكنني اتصلت بمايك وأعلمته بمجيئك. "
ففغرت لوسي فاها، وهي لا تصدق، ثم انهمرت أسئلتها:
" اتصلت بمايك؟ أخبرته ؟متى؟ ومتى اشتريت البطاقه؟ بل ما كل هذا؟ "
حافظت كلير على هدوئها ، وهزت كتفيها بلا مبالاة ثم ابتسمت لها، وقالت :
" وما همك ؟ عليك اتخاذ قرارك قبل فوات الاوان .فقد حجزت لك في القطار غداً باكراً. كما حجز لك مايك بدوره غرفة في فندق قرب المدرسة. وقد تم تدبير كل شيء .ولم يبقى إلا تحضير أغراضك وركوب هذا القطار"
حدقت لوسي فيها بثبات وهي تعبس ثم سألتها :
" ومتى فعلت كل هذا؟ "
" منذ يومين تقريباً. "
" ولكن ...لماذا ؟ولم لم تخبرينني؟ ماذا يجري هنا؟ "
" لقد قلت لك إني لم آصدق حكاية تجربة الفيلم قط. وكنت متأكدة من أنها مجرد حيلة. "
فعضت لوسي على شفتيها وقالت :
" لا بد أنك تعتبريني غبية "
لكن كلير ابتسمت لها ابتسامة ملؤها المحبة، وأجابت :
" كلا، بل صادفت مصاص دماء عاشق، وحسب.وقد سجل هذا الرجل تاريخاً في افتراس النساء التعيسات.فهو يظهر بداية تعاطفاً ودعماً ودودين، الى أنه ينتهي في فراشهن.وما إن ينال مراده ، حتى يطيري الى مكان آخر "
فقهقهت لوسي بعصبية، قبل أن تسألها كلير:
" أليس هذا ما حدث معك؟كنت تعيسه بسبب مايك، الى ان اقتحم حياتك بتفهمه، ولطفه،حتى لم يعد بوسعك الا تحبينه. ومن ثم ، حاول جذبك الى فراشه. "
فعلا الاحمرار وجه لوسي:
" لم أخبرك بذلك قط! "
لكن كلير ردت بكآبة :
" لم يكن من الصعب علي أن أتكهن .إذ يمكن للمرء أن يتنبأ بتصرفاته. وهكذا ، كنت متأكدة من أنه لا ينوي ضمك الى فريق الفيلم .وقلقت عليك ، بل خشيت أن تكون المسألة بمثابة القشة الأخيرة ، بعد مشاكلك مع مايك، لذا ،بدأت أعد هذه التدابير فإن خضعت لتجربة الفيلم فعلاً، أوجل موعد الرحلة الى حين، لذا، لم تكن المجازفة كبيرة. كما أنك تحتاجين الى عطلة يالوسي، فقد أرهقت نفسك في العمل. ومن هنا، اعتقدت أنك بحاجة لرؤية مايك، ومناقشة بعض المساءل معه، وهي مسائل لا يمكنك مناقشتها عبر الهاتف، او عن طريق الرسائل، بل عليك رؤيته ، وجهاً لوجه "
وما كان من لوسي الا أن عضت على شفتها ، وهي عاجزة عن التوصل الى قرار ، ثم قالت وقد تشعث شعرها الاشقر، وازدادت ارتباكاُ.
" لا أدري ماذا أقول. "
" قولي إنك ستذهبين وحسب! "
وما لبثت لوسي أن عانقتها وهي تكاد تنتحب:
" أنت رائعة ! وأنا شاكرة لك جداً يا كلير... ولن أنسى ذلك أبداً..."
" لا أرغب الا في رؤيتك سعيدة يا لوسي. وأظن أنك ومايك مناسبين لبعضكما ، فهو سيسعدك كثيراً .ولم أرد أن تخسريه من أجل ثمن البطاقة فقط. وبما أن الارباح كانت وافرة هذه السنه، فيمكنني أن أرسلك . والآن ،أتفضلين تحضير حاجياتك ، أم ترك هذا الى الصباح، ومحاولة الخلود الى النوم؟ "
فهتفت لوسي :
" بل سأحضرها الآن.وباستطاعتي ان انام في القطار غداً "
وقفزت عن السرير ، وقد امتلأت حيوية وإثارة ، ولم يستغرق منها توضيب أغراضها إلا نصف ساعة، لا سيما بوجود كلير ، التي سرعان ما أجبرتها على نيل قسط من النوم.
ووعدتها وهي تطفئ النور :
" سأوقظك في الوقت المناسب صباح الغد "
ثم توجهت الى غرفتها، واستلقت على السرير بدون ان تبدل ملابسها، وهي تحدق في الظلام .في الواقع ، لم تحس بوخز الضمير لأنها أخفت الحقيقة عن لوسي. فلو أنها لم تكذب عليها ، لرفضت لوسي أن تركب هذه الطائرة ، ولخسرت الرجل الذي آمنت كلير أنه المناسب لأختها.
وهي مقتنعه أيضاُ أن لوسي لن تفوت عليها مستقبلاً مهماً في التمثيل، ولم تخضع لتجربة الفيلم هذه. صحيح أنها جميلة جداً، وتملك وجهاً مناسباً للتصوير، ولطالما أقرت كلير أنها تبدو مذهلة في الصور، لكنها لم تظهر أي موهبة في التمثيل. وقد سبق لها أن مثلت في مسرحيات المدرسة، لكنها لا تتميز بسحر على المسرح، أو على الاقل ، هذا ما لاحظته كلير.أما عن دنزل ،فلم يتظاهر مرة بأنه يؤمن بصفات النجمة فيها ، بل لم يعرض عليها هذه التجربة إلا إظهاراً لطيبته. ومع ذلك، كانت كلير متأكدة من أنها لم تخطء بشأن دوافعه قط، فلقد استخدم عمله كطعم ليغوي لوسي. ولا شك أن هذه الخطة المحكمة قد نجحت مع عشرات النساء قبلها.لكن ، من الواضح انها فشلت مع لوسي.
كان نظرها مازال موجهاً الى السقف، فعبست وهي شاحبة الوجه، باردة. لايجدر بها أن تفكر فيه. لكن فيما تفكر غيره، ولا شاغل آخر يصرف صورته عن ذهنها ؟ وسرعان مابدأت الصور المزعجة تحتشد في مخيلتها. فلم تستطع أن تصدق الذكرى التي تجتاحها .أحقاً تصرفت هكذا ؟ ما الذي أصابها بحق السماء؟ لكن صدقها، وطبيعتها الصريحة ، أبيا أن يكذبا .في هذا الظلام الموحش، لم تعد تقوى على إخفاء الحقيقة ،أو أنكار مشاعرها نحوه.فأغمضت عينيها ، وتأوهت الذكرى تمزق أحشاءها، وكأنها ابتلعت زجاجاً مكسوراً. كانت مغرمة به ، الى حد اليأس. لكن، أيعقل أن تكون بمثل هذا الغباء؟ نعتها هذه الليلة بالجنون، وكان محقاً .فمجرد الوقوع في حب رجل مثله، ضرب من الجنون. ولماذا تطلب الامر منها هذا الوقت كله كي تدرك ماذا يحدث لها؟ وكيف يخذلها العقل الذي لطالما تميزت به، هذه المرة؟ لا شك أن العداء الذي ساد بينهما يوم التقيا أعماها ، ولم تدرك أنه كان مجرد غشاء يخفي خلفه خطراً حقيقياً .وفي الليلة الاولى، شغلها القلق على هيلين ، فلم تدرك انه مصاص دماء سيقدم على أذية هيلين ليرحل بعد ذلك من دون تردد.
وهاهي الآن تتساءل ، ان كانت تجازف هي الاخرى بالاقتراب منه.
لكنها لطالما كانت باردة ، لا بل امرأة أعمال مميزة واقعية ومتزنة، وقد أقنعت نفسها أنها لن تسمح لأي رجل بأن يؤذيها مجدداً، وأن هال ، الذي كسر قلبها ،قد علمها الحذر من الوقوع في غرام الرجل غير المناسب. وحين استرجعت بعض المشاهد الخاطفة، تساءلت إن كانت لم تدرك منذ النظرة الاولى أن دنزل بلاك سيهدد سلامها الداخلي. ترى، ألم تعرف منذ البداية أن تأثيره سيكون عنيفاً كالزلزال؟ وإلا ، لماذا كان الخوف الشديد يستبد بها كلما قابلته؟ ولماذا راودتها عنه كل هذه الاحلام المزعجة؟
لقد نجحت في إنقاذ أختها من مخالبه، لكن، من سينقذها هي؟

المواجهة الصعبة

وفي صباح اليوم التالي ، وخلف ستار ذهبي خفيف، قادت كلير السيارة الى كوخها ،وهي في حال من الانفعال الشديد.
فكرت في أن الربيع قد حل أخيراً! ويبدو أن هذا اليوم سيكون صافياً، من دون غيمة في السماء.والى جانب الباب الامامي ، تفتحت براعم الزنبق الأزرق ، لتكشف عن وريقات ملتفة، وعبير ذكي يدغدغ الانفاس.
توقفت كلير لتتنشق الاريج ، وهي تدرك أنها لا تقوم الا بتأجيل موعد دخولها الكوخ، وصعودها السلالم.
كانت قد ودعت لوسي عند محطة القطار، ثم قادت السيارة الى الكوخ بتمهل، وهي شاحبة الوجه، خائفة. وأدركت أنه لم يكن بوسعها أن تبقيه مقيداً. لكنها ، في الوقت نفسه امتلأت رعباً وهي تفكر في مايقدم عليه حين يتحرر .
عضت شفتها ،وقد استحال وجهها قرمزياً، وهي تذكر الليله الماضية وما لبثت أن تأوهت بصوت عال:
" لماذا أقدمت على ذلك؟ ما الذي أصابني بحق السماء؟ "
ولكن ، عليها أن تتقبل الحقيقة إنها مسلوبة الارادة .فمنذ أن وقعت عيناها على دنزل للمرة الأولى، وهي مسلوبة الارادة، وكانها خاضعة، مهووسة، وقد سيطرت على عقلها صور غريبة ، وباتت أحلامها حسية. ولو انها عاشت في العصور الوسطى ،لا عتبروا ان الشيطان قد تلبسها. وفي الواقع، ما من صفة تناسب دنزل أكثر من هذه.
أغمضت عينيها، وقد أسندت وجهها الى الحائط الحجري .إنني أفقد رشدي ، فأنا أكلم نفسي ، وأعاني الهلوسات ، بل تراودني أغرب الاحلام...فما بالي؟ مما أشكو، عدا عن وقوعي في حب آخر رجل في العالم قد تفكر فيه أي امرأة عاقلة؟
صرخت وهي تحدث نفسها مجدداً: " أصمتي! "
فما الفائدة من الجدال ، انما عليها الدخول الى الكوخ ، ومواجهة مصيرها.
ومالبثت أن أدارت المفتاح في القفل ، وفتحت الباب .وقفت في الرواق الضيق تطرق السمع.
ما من صوت. أغلقت الباب بهدوء، وبدأت تصعد السلالم على رؤوس أصابعها ،وتتوقف بين الحين والاخر لتصغي مجدداً. وحين بلغت أعلى الدرج، سمعته يتنفس .لبثت مكانها ، ونبضها يخفق في حنجرتها، ثم سجلت وجود صوت هاديء منتظم، فاطمأنت الى أنه نائم.
بمقدورها إذاً أن تتسلل الى الداخل ، فتلقي اليه بالمفتاح من غير أن توقظه ،ثم تفر خارجاً. وخالجها شعور مزعج بالارتياح ،فدفعت باب غرفة النوم بحذر، وبعد ثانية ،فق قلبها بسرعة ، وقد وقع نظرها عليه.
كان مستلقياً على ظهره ، وعيناه مغمضتان، فيما أهدابه السوداء منسدلة على وجنتيه الشاحبتن .أما صدره فمكشوف كحال كتفيه، لا سيما أن الغطاء لايغطي سوى القسم السفلي من جسده.وأضفت الستائر المسدلة على الغرفة ظلالاً غامضة.لكن ماذا لو لم يكن نائماً حقاً؟ ماذا لو كان يتظاهر بذلك ، كي يوقعها في الشرك؟
وأمعنت النظر فيه .لا.. لو أنه يمثل فعلاً، لما فغر فاه على هذا النحو.
وشرعت كلير تتقدم نحوه بحذر ، وهي تنوي أن تضع المفتاح فوق المنضدة قرب السرير، لتتسلل الى الخارج مجدداًً.لكن ما إن بلغت منتصف الطريق، حتى تقلب في مكانه بقلق .فما كان منها الا ان جمدت في مكانها. وراحت تراقبه وهي مستعدة للهجوم إن استقام على السرير.
لكنه رف جفنيه، وتنفس بسرعة، ثم راح يئن ، وهو يلوي رأسه من جانب الى آخر. إلا أن كلير لم تسمع دمدماته، وبدت كلماته غامضه وصوته أجش. وبعدئذ، صرخ بطريقة، زرعت فيها رعباً عظيماً. لم يسبق لها أن سمعت هذا الخوف ، بل هذا الالم في صوت رجل من قبل.وبلغ بها القلق حد الهروع الى سرير ، والجلوس بقربه، لتهزه بعنف، قائلة :
" استيقظ يا دنزل! "
فتغيرت حركة تنفسه ، وصرخ كما المصاب بصدمة ، ثم فتح عينيه، ونظر إليها بغرابه ، وهو متصلب الجسم ولدقيقة، أيقنت أنه لا يدرك من هي، الى أن تلعثم:
" ما ...ما الأمر...؟ كلير؟ "
فردت بارتعاش:
" كنت تحلم... لقد انتابك كابوسٌ "
شحب وجهه حتى استحال ناصع البياض، وبدت عيناه شديدتي السواد:
" وكيف علمت؟ ماذا قلت؟ "
ولما رأت ارتباكه ، نظرت اليه غير مصدقة ، فهذا لا يناسب الرجل الذي تعرفه . غير انها سارعت تطمئنه بدافع غريزي:
" لم تكن تتكلم بل تصرخ. "
ومهما كان الحلم الذي راوده ، يمكن لكلير أن تجزم أنه يبدو وكأنه رأى الجحيم بعينه. ومع ذلك ،بدا كل همه ألا يعرف أحداً سبب تلك الكوابيس التي غزت مخيلته.
وتنهد بتثاقل، ثم وضع ذراعه على وجهه، في حركة مستها في الصميم ، بدا لها أشبه بطفل يحاول أن يختبئ ، وقبل أن تدرك ما تتقوم به، أزاحت خصلاته شعره الاسود عن جبينه، ثم تمتمت بنعومه :
"أنت بخير الآن .لقد انتهى الكابوس وحل الصباح "
وبصوت لم تسمعه قبلاً، رد بانزعاج:
" بل لن ينتهي أبداً. فتلك هي حال هذه المسائل. تعود الينا في الاحلام مراراً وتكراراُ، كين نكون نياماً، وقد رمينا بأسلحتنا جانباً "
ترددت كلير ، ثم قالت بصوت يخالطه الشك والاجفال:
" يبدو الامر خطيراً. هل تريد التحدث عنه؟ "
فضحك بصوت خشن وقال:
" وماذا تتوقعين ؟ سراً رهيباً ومخيفاً؟ كلا يا كلير، ما من سر غريب أو خاص في كوابيسي. مجرد ذكريات من الطفولة، كان يجب ان أدفنها منذ مدة طويلة "
وغمرها الارتياح لبرهة، لكنها مالبثت أن تذكرت الأصوات التي أصدرها، فعبست وقد أيقنت أن هذا الرعب حقيقي ولا يحتمل. سألته، وهي تدرك أنها تجتاز طريقاً وعراً، وأن عليها أن تخطو كل خطوة بحذر شديد:
" هل كانت طفولتك تعيسة؟ "
كانت تعرفه بما فيه الكفايه ، لتجزم أنه ليس من الرجال الذين يفصحون عن مشاعرهم الخاصة، وهو يماثلها في ذلك سرية . ومن هنا، لسعتها المفأجأة، حين اكتشفت للمرة الاولى في حياتها، أنها يتشابهان بطريقة ما.
وبعد صمت طويل، تذكر دنزل بخشونه:
" لقد تخللتها بعض للحظات التعيسه. "
فتنفست بعمق، وقد أجفلها ما شعرت به من سعادة ، حين أجابها ، ولو بهذا القدر من الكلمات .وسرعان ما أحست كمن أقنع طيراً برياً بالتقاط بالبذور من يده.
ثم سألته بحذر، إنما بنبرة حاولت مابوسعها لتبدو عادية:
" ألم تتفق مع والديك؟ "
فقهقه بغضب، ثم أخفض ذراعيه ، ونظر اليها بعينين رماديتين حادتين :
"والدي؟ حين بلغت الثانية من عمري، هربت أمي مع رجل آخر. اما والدي، فلم يعرف ماذا يفعل بي.لذا ، رماني لأخته، ثم اختفى بدوره. وكان لأخته أربع صبيان ، بلغوا سن المراهقة. ولو قلت إنهم لم يرغبوا في وجودي ، للطفت الحقيقة. فقد كان شغلهم الشاغل أن يحيلوا حياتي جحيماً، لا سيما أن مخيلتهم كانت واسعة. "
فأجفلت وسألته:
" أتعني أنهم عذبوك؟ "
" فكروا في مئات الوسائل ، ليدفعوا صبياً صغيراً الى حد تمني الموت. "
واجتاح الرعب قلب كلير، وقد حدقت فيه بعينين قاتمتين:
" لكن... لمَ لم تخبر أحداً... كعمتك ،أي أمهم؟ لمَ لم تخبرها؟ "
فزادت السخرية ملامح وجهه حدة:
" كانوا أذكياء. فلم يتركوا آثاراً على جسدي ، بل في عقلي وحسب. ولم ترغب عمتي فلورا في رؤية ما لا تريدرؤيته. فهي لم تكن تريدني بدورها طبعاً، لاسيما أنها أرملة، ولا تملك الكثيرمن المال. ولم تستقبلني إلا لأنه واجبها، كما اخبرتني مرات عديده. إنها امرأة متدينة، تؤمن بالواجبات ولا تكشف عن عواطفها الانسانيه، الا في ما يتعلق باولادها ، ولقد أشرفت على غذائي ، وملبسي ، كما واظبت على اصطحابي الى الكنيسه مرة في الاسبوع. ولم تكن قاسية القلب، بل مجرد امرأة غير مبالية. كما أن الوضع لم يكن بهذا السوء عند وجود الصبيان في المدرسة، لكن أيام العطل ونهاية الاسبوع كانت مرعبة في نظري. وقد كرهت الميلاد خاصة ، يضطر الجميع الى قضاء الوقت في المنزل بسبب حالة الطقس، مما يدفعهم الى البحث عن وسيلة للتسلية، أي أنا. فيمارسون مداعباتهم السمجة، كما يسمونها، الى ما لا نهاية. وحين يطلق الناس هذا المزاح عبارة مداعبات سمجة، فهم يقصدون مداعبات قاسية كما تعلمين. فهذا المزاح ينطوي دائماً على القسوة ، التي لا تعجب الضحية أبدأً. وهنا ، تمتمت كلير بهدوء:
" أعرف ماذا تعني. فأنا أكره المداعبات السمجه، حين أكون هدفها. قل لي، اينوع من المزاح كان؟ "
فكشر وقال:
" آه ،كانت خدعاً تهدف الى الاغاظة في معظم الاحيان. لكن حين يكون المرء في الرابعه من عمره ، فإنه يراها العذاب بعينه. وحين بلغت ميلادي الخامس، غمروا سريري بإبر أشجار الصنوبر، وأجبروني على الاستلقاء فيه، صحيح أنني لم أحتضر ، لكنها خدشتني كالقراص. وفي بعض الاحيان، كانوا يدفعونني الى خزانة تحت السلالم، ويحبسونني فيها. لطالما أرعبني الظلام الدامس الذي يغمر المكان. ومنذ ذلك الحين ، وأنا أعاني رهاب الاحتجاز. وقد اعتادوا إخفاء هداياي ، او رميها حتى تتكسر، ثم يتركونني لأتلقى اللوم. وبما أن عمتي تؤمن بالعقاب الصارم، فقد اعتادت ضربي جزاءً على ما يقترفه أولادها. وأذكر لعبة كانوا يحبونها كثيراً، وتدعى الكعكة المحمصة ، ووفيها يمسكونني فوق النار، ويتظاهرون بتحميصي. ومع أنهم لم يوقعوني مرة . لكني لم أكن متأكداً من نيتهم . في الواقع، كانت هذه القسوة العقلية نموذجية، أي أنني لم أكن أهتم لما يفعلونه بي، بقدر ما يقلقني ماقد يفعلونه لاحقاً. وكانوا يقدمون على لوي ذراعي، ونتف شعري كلما رأوني ، وكأنهم يرفسون أي كلب "
في تلك الاثناء كانت كلير تحاول مقاومة دموعها ، وقد شحب وجهها . وتملكها مزيج من الغضب والألم وهي تتخيل صبياً صغيراً يتيم الأم ،يحاول أن يتحمل كل هذه الصعوبات.
ومالبثت أن سألته بصوت أجش:
" وكم من الوقت مضى قبل أن تتغلب على كل هذا؟ "
فكشر وأجابها:
" خيل الي أن الوقت أبدي، لكنها كانت خمس سنوات أو ست تقريباً، على ما أعتقد. وحين بلغت الثامنه، كانوا قد تخرجوا من مدارسهم ، وبدؤوا يعملون او يرتادون الجامعه، وقد ملوا من التسلي بتعذيبي".
ففكرت بصوت عال:
" الأن فهمت لمََ تكره الميلاد "
عندئذ رماها بنظرة جانبيه سريعة وسألها :
" هل أخبرتك بذلك؟ "
ولما أومأت برأسها ، ابتسم وهو يلوي فمه :
" نعم ، في الواقع، كان عيد الميلاد أسوأ يوم في السنه، وكم كرهت التعارض بين كلام أمهم عن ضرورة انتشار المحبة بين الناس، وبين ما يقترفه أبنارها بحقي، بعلم منها أو من دون علم. "
فقاطعته وهي جزعة:
" وكيف أمكنها أن تفعل هذا ؟"
" أظنها لم تكن ترغب في الاطلاع على الامر . ألا تفضل الأمهات أن يؤمن بكمال أولادهن، لاسيما في فترة الميلاد؟ تعلمت أن أكره الموسم بأكمله، من الخدمات في الكنيسة ، الى ترانيم الميلاد، فبطاقات العيد بكلماتها المحبة، هذا الى نباتات البهشية والاشرطة اللماعة. وبدا لي أن في العالم أجمع عائلات تجمع شمل أفرادها ، وكانت برامج التلفزيون تحفل بافلام قديمة العهد، فيما الترانيم لا تنقطع مطلقاً من المذياع... ولم يكن باستطاعة المرء أن يهرب من هذا الجو أينما ذهب. أما أنا ، فقد اعتبرت كل ذلك مجرد حلة زائفة. "
" أتفهم لما فكرت بهذه الطريقة. "
ولم تشأ أن تجادله ، فليس الأوان أو المكان مناسبين لتحاول أن تغير نظرته الى الميلاد. وبدلاً من ذلك ، قالت بنعومه:
" لا عجب أن الكوابيس تنتابك. يبدو أن ما حدث في طفولتك قد ترك فيك أثراً لم يتركه أي حدث آخر في حياتك، أليس كذلك؟ "
فتذمر ،والسخرية في عينيه، ثم قال:
"هذا مايبدوا .ياللتفاهة! ألا توافقيني الرأي؟ ها قد مرت عشرون سنه تقريباً على مون عمتي ، ولم يقع نظري مرة أخرى على أي من أبنائها. كان علي أن أنسى مافعلوه بي، ولكن ..."
وهز كتفيه استهجاناُ، قبل أن يضيف بسطحية :
" من الغرابة أنها ماتت فجأة في عيد الميلاد، إثر نوبة قلبيه .وبما أن أحداً لم يلاحظ قبلاً أنها تعاني من القلب ، فقد كانت الصدمة عنيفة. "
ومالبث أن صمت عن الكلام ، وهو شاحب الوجه .بعدئذ، هتف بصوت خشن :
" لا .ليست هذه الحقيقة الكاملة. لم يحدث أن أخبرت أحداً بهذا، ولكن ماجرى بسببي. فأنا من تسبب لها بتلك النوبة القلبية. "
ففي يوم الميلاد ذاك ، كان ابنا عمتي قادمين مع افراد عائلاتهم، لا سيما بعد أن تزوج اثنان منهم، وانجبا الأطفال.أما الاثنان الباقيان ، فقد استعدا للمجيء مع صديقتيهما. وكادت عمتي تطير من الفرح. وظلت طيلة الوقت تمدح الميلاد على أنه يوم رائع تجتمع فيه العائلة . ثم راحت تثني على أبنائها المحبين. وفجأة فقدت أعصابي ، وأخبرتها أي نوع من الوحوش القساة هم أبناؤها، وكم اكرههم..."
ثم صمت وهو يتنفس بارهاق، ولا حظت كلير كم ترتعش يداه. فأمسكتهما معاً، وقد أخافتها النظرة على وجهه .
وحدق في أيديهما المتشابكة ، قبل ان يرميها بنظرة مستغربة:
"هل تبدين نحوي لطفاً وتعاطفاً يا كلير؟ "
فتوردت وجنتاها لما سمعته من تهكم جاف ، وحاولت أن تسحب يديها ، لو لم يشد قبضته.
" أنا لا أحاول أن أهاجمك. لكنني غالباً ماشاركت في هذا المشهد، عادة أكون المستمع الجيد، فأصغي الى الناس، وهم يفصحون عن مشاكلهم . أما هذه الطريقة، فلا. وغالباً ما يكون جزءً من عمل المخرج، لاسيما حين يعمل مع ممثلين انفعاليين ومزاجيين. "
فأشارت كلير بنبرة جافة :
"ولا سيما إن كن ممثلات جميلات..."
التفت إليها وقد التمعت التسلية في تظراته:
" يا لها من ملاحظة خبيثة! "
فازداد التورد على وجهها .ترى ، هل اكتشف نبرة غيرة في صوتها؟ لو فعل، فلن تسامح نفسها أبداً.
وأضاف دنزل بجفاء:
" علي أن أقر أن تجربة الوقوف من الجهة الاخرى للكاميراجديدة.لكن ،لا أريد لذكرياتي المثيرة للشفقه أن تصيبك بالملل. فما من كلام يضجر أكثر من ذكريات إنسان آخر"
فطمأنته بكلمات عنتها فعلاً:
" لكنك لا تشعرني بالملل! "
وكشف ملامح وجهه عن سخرية وهو يقول :
" لا أريد إخبارك بالمزيد، حرصاً على صورتي. "
ثم توقف وهو يعبس ،قبل أن يضيف بلهجة فظة :
" أردت أن أؤذي عمتي. لقد تملكني الغضب حين رأيتها بهذه السعادة والرضى عن نفسها وعن صبيانها. وظللت أتذكر أعياد الميلاد التي مرت بي ، أنا الذي لطالما بقيت غريباً في ذلك المنزل، أنا الذي لطالما تجاهلوني أو ضايقوني... وشعرت بموجة عاتيه من الغضب ، فهتفت بالحقيقة في وجهها, وكنت في تلك المرحلة من المراهقة حين يبدأ المرء بالثورة ،وبررت لنفسي قولي الحقيقة. وبالطبع لم تصدق كلامي، أو على الأقل لم تقره.وبدأت تصرخ بدورها...وفجأة ،أخذت تختنق وهي تقبض عى صدرها. ومالبثت أن ترنحت ، وتهالكت على الكرسي. فخفت ، وما كان مني إلا أن انحنيت نحوها لأسألها إن كانت بخير. لكنها ضربتني ،لتكون هذه ضربتها الأخيرة. "
ورفع رأسه مجددأً، ونظر الى كلير وهو شاحب الوجه،ثم قال:
" آخر مافعلته هو ضربي، ومن ثم ، لفظت أنفاسها الآخيرة، من غير أن أحاول مساعدتها. "
وشعرت كلير برغبة قوية في إحاطته بذراعيها. ولكن خوفاً من ذلك ، شدت من قبضتها على يديه وعلقت:
" لا بد أنك خفت كثيراً. فقد كنت كجرد مراهق يشعر بالذنب... وأظن أنك لم تدرك ما لعمل ، أليس كذلك؟ "
" في الواقع، لم تكن لدي أدنى فكرة .ففي لحظة ، كانت تصدر هذه الجلبة الرهيبة ، لتتوقف عن التنفس في اللحظة التالية. "
ونظر الى كلير بثبات ، وعيناه شديدتا السواد ، قبل أن يضيف :
" لم أحاول أن أساعدها حتى ، وهذا ما لا يمكن أن أنساه أبداً. بل وقفت هناك، أحدق فيها، وكأن عقارب الزمن قد توقفت .وأظن أن نفسها الأخير قد أحالني ...لا أدري ...خدراً.وبدا لي غريباً، ان يكون آخر ما أقدمت عليه هو ضربي. "
فتمتمت بنعومه:
" كنت في حالة من الصدمة "
" أظن ذلك .وكل ما أعرفه أنني وقفت ، فاغر الفم، ومن ثم ، تملكني الرعب الشديد .ولم أحاول أن أقوم بالإسعافات الأولية، بل اكتفيت بالهرولة والاتصال بسيارة إسعاف.وأخيراً جاء الطبيب، وأخبرني أنها ماتت في الحال ، لكني لم أتأكد قط من صحة كلامه. "
" كنت مجرد طفل يا دنزل! ولا عجب إن انتابك الرعب الشديد. "
" لست أدري.ربما ، إن فعلت شيئاً... كالتنفس الاصطناعي مثلاً، أو محاولة انعاش قلبها مجدداً، لكانت نجت من الموت. لكنني لن أعرف ذلك أبداً. "
وشعرت كلير برغبة في البكاء .فعيناه أشبه ببئر عميقة، مظلمة من الألم ، ومالبثت أن همست :
" وقد لازمك الشعور بالذنب منذ ذلك الوقت "
ابتسم ابتسامة ملتويه وقال:
" منذ ذلك اليوم ، وأنا أحاول أن أنساها. لكنك محقة، فقد شعرت بالذنب فعلاً. وحري بي ذلك. لقد منحتني مأوى حين لم تكن مضطرة لذلك ، ولم تكن هي من أساء معاملتي، بل أبناؤها. وهم الان، بالمناسبة، أعضاء في المجتمع يحظون بالاحترام على ما أظن. ولسوء حظي كانوا في تلك المرحلة القاتلة من المراهقة حين ظهرت بينهم. فأنت تعرفين أن المراهقين يمرون بمرحلة يخيفون فيها غيرهم من الأطفال، لمجرد التسلية. ولا يمكنني أن ألوم عمتي على ذلك، كما لا يمكنني أن أحملها ذنب العوشاطف التي لم تظهرها لي، لا سيما أن لها أربعة أبناء من لحمها ودمها "
ولبرهة ،ساد بينهما الصمت ، قبل أن تساله كلير :
" وماذا حدث بعد موت عمتك؟ "
" في ذلك الوقت، كان أبي قد مات بدوره ، أو ضاع في البحر قبل سنتين ، فيما كان يعمل ضمن طاقم سفينه. أظن أنه قفز من على متن السفينه حين كان ثملاًُ .لكن موته اعتبر حادثاً، رسمياً. "
" وماذا عن والدتك؟ "
" الله وحده يعرف مكانها. ومن يدري ؟ لعلها ميته أيضاً، ولكن قلما أهتم.فقد اختفت منذ كنت في الثانية من عمري ، ولم يرها أحد أو يسمع عنها منذ ذلك الوقت. وبالطبع، ورث أبناء عمتي كل ممتلكات أمهم، ومن ضمنها المنزل ، وبعض الاغراض الخاصة.وباعوا البيت ، ثم وزعوا الأموال في ما بينهم ، وإذا بي أجد نفسي من غير مأوى. "
وأجفلت كلير وهي تسمع الكآبة في صوته. لقد فسر لها حديثه الكثير عن شخصيته، وعن كل مأ احست به منذ التقت به . لقد أحست حينها أنه رجل انطوائي ، بعيد عن الدفء الانساني، وكأنه يراقب حياة الاخرين من شبابيك مضيئة، فيما هو واقف في الخارج ، في الظلام. نعم، لطالما كان دنزل دخيلاً وما لبثت أن سألته برفق:
" إذاً ،ماذا حدث لك بعدئذ؟ "
وإذا بوميض من التسلية الباردة يلمع في عينيه وهو يجيب:
صادفني الحظ للمرة الاولى.. على فكرة ، لي نظريتي الخاصة في الحياة والكون وكل مايحيط بنا، وتستطيعين القول إنني أؤمن بالتوازن .فإن عانيت من الحظ السيء مرات عدة، ستدور عجلة الحظ عاجلاً أم أجلاً. يمكنك ان تسمي ذلك ماشئت: العناية الإلهية، أو التعويض، أو غيرها..في يوما ما ،سيبتسم لك الحظ. كانت حياتي غاية في التعاسة، الى أن أصبحت راشداً تقريباً. ولكن منذ اليوم الذي قضت فيه عمتي ،تبدلت مسيرة حياتي. فقد عرضت علي إحدى معلماتي منزلاً حتى بلغت الثامنه عشرة . وكانت مختلفة جداً عن عمتي .ومع أن لها أطفالاُ أيضاً، إلا أنهم كبروا جميعاً ،وانتقلوا للعيش بعيداً عن المنزل. لذا تحب هي وزوجها أن يستقلا الشبان في بيتهما. "
وتغير وجهه ، فأضحى أكثر نعومه ودفئاً، مما بدل مظهره كله.
وعلقت كلير بتردد:
" يبدو الي أنهما رائعان "
فابتسم :
" فعلاً .لقد أنعم الله على آل داريل بعقل منفتح، وقلب نابض بالحياه.وما زالا على تلك الحال، رغم تجاوزهما السبعين من عمرهما الآن. وقد تبدلت حياتي منذ انتقلت للعيش معهما ، فالتحقت بالجامعه، حيث تابعت دروساً في التصوير. ومن هنا بدأت أهتم بمهنتي العتيدة .وما زلت أزورهما من وقت الى اخر، ولم أقطع علاقتي بهما ابداً "
" وماذا عن أبناء عمتك؟ "
فاحتدت ملامح وجهه مجدداً، ثم أجابها:
" لم أرهم قط "
ثم توقف قليلاً قبل أن يضيف:
" أحاول ألا أفكر فيهم أيضاً، ولم تعد هذه الكوابيس تنتابني كثيراً، الا إن كنت مرهقاً، أو أتعرض لضغط ، أو لمضايقة. فتعود الأحلام الى الحياة مجدداً. "
وفجأة ، احست كلير وكانها أصيبت بصدمة، وسرعان ما شحب وجهها، وشعرت بالسوء، وعرفت أنها لم تدرك الأمر حتى هذه اللحظة، فتمتمت :
" لقد...انتابك الكابوس الآن ، لأنني قيدتك الى السرير...هذا هو السبب ،أليس كذلك؟ "
فهز كتفيه بلا مبالاة، ولم يجب لكنه لم يكن مضطراً لذلك. وأدركت كلير ما اقترفته في حقه، بعد كل هذه الوحشية التي عامله بها أبناء عمته طيلة هذه الاعوام.
فتلعثمت :
" أنا آسفة...آسفه جداً.لو عرفت ذلك ، لما كنت ...لمَ لم تخبرني ، بحق السماء، إنك تعاني رهاب الاحتجاز؟ لا شك أن هذه الليلة كانت أشبة بكابوس بالنسبة لك.."
ثم توقفت عن الكلام، وعضت على شفتها السفلى.
فضحك:
" هل كنت لتصدقينني؟ "
فتأوهت وأجابت :
" لا أظن "
وأخرجت المفتاح من جيب سترتها، ويدها ترتعش. بعد ذلك ،أضافت وقد انحبست انفاسها:
" استقم في جلستك وسأفك حزامك "
ولما فعل، كشف قميصه الاسود الحريري عن صدره.فبدت كلير من الانزعاج، ما تطلب منها دقيقة لنزع القفل .لكنها نجحت في النهاية، وحررته ، ثم تركت الحزام والسلسلة يسقطان أرضاً بجانب السرير.
تمطى وهو يتنهد ارتياحاً، وقال :
" أحمد الله على هذا ،لم يكن الوضع مريحاً ا لبتة "
فردت بصوت أجش:
" أنا آسفه، لم أقصد أن أوذيك، بل كنت أحاول فقط..."
عندئذ، أجاب بنبرة قاسية:
" أن تحمي أختك مني... أعرف. وأتوقع أن لوسي مضت في سبيلها الآن.متى يحين موعد إقلاع طائرتها؟ "
نظرت إليه نظرة غامضة مشككة من بين أهدابها. لعلها شعرت با لأسف نحوه، لا سيما بعد أن سمعت عن طفولته الرهيبة، لكنها لم تكن متأكدة من أنها تستطيع الوثوق به. ولن تتفاجأ إن خذ بثأره منها، لكنها على استعداد للهرب، ان حاول ان يمسك بها. لكنه لم يقدم إلى الآن على أي حركة تهددها . ومالبثت أن قالت:
" تعلم أنني قمت بالعمل الصحيح! فهي تحب مايك فعلاً، وستكون سعيدة معه "
" لست بحاجة الى تبرير نفسك أمامي. فقد تلاعبت بحياة لوسي وليس بحياتي. "
ازداد احمرار وجهها ، وعاد نفاذ صبرها إلى الظهور:
" هيا، أقر بالامر. لم تكن تملك أدنى فرصة في التمثيل ،أليس كذلك؟ "
هز كتفيه من غير اهتمام ، ونظر إليها مجدداً وقال بتهكم:
" أشك في ذلك، صحيح أنها جميلة، وأنها تبدو فاتنة أمام الكاميرا، لكنني متأكد من أنها لا تستطيع التمثيل ، بما إنني سبق وعملت معها في المهرجان . وقد راقبتها وهي تحاول أن تعلم الأطفال التمثيل ، وأخشى أنها تبدو خرقاء تماماً. "
" أعرف . وأذكر أيام مسرحيات المدرسة ، حيث كانت تبدو جميلة، وتتلفظ بنصها بوضوح، لكنها...في الواقع، لم تكن على هذا القدر من البراعة. "
فأجاب دنزل :
" إنها لا تملك من الخيال ما يمكنها من أن تصبح ممثلة. فهي سعيدة بنفسها لدرجة تمنعها من البحث عن شخصية أخرى. والممثلات الماهرات بحاجة إلى هذ . وغالباً ما تجدين أنهن يعانين من شكوك ذاتيه، ويحتجن بيأس لنوع من الإطمئنان "
" لمَ اقترحت عليها الخضوع لتجربة، إن كنت تدرك عدم كفاءتها؟ "
" لم تكن سعيدة، وقد فرغت مني الاصوات المتعاطفة التي أصدرها حين تتحدث عن مشاكلها. وارتأيت أنه من الممتع لها أن تخضع لهذه التجربة، فقد تشغلها عن الصعوبات التي تعانيها ليوم أو اثنين. وان كان وجهها مناسباً للتصوير كما أظن، قد تشكل فسيفساء جميلة في مجموعتي . "
فردت بهدوء، وقد علا الاحمرار وجهها :
"فسيفساء في مجموعتك.."
نظر اليها بجفاء، وقد لاحظ نبرة صوتها، فتوسع شرحاً:
" أعني الصورة النهائية التي أحاول أن أركبها. فلا بد أنك استنتجت من الرسوم التخطيطية التي سبق ورأيتها، أني أعتبر كل مسرحية رسماً معيناً.ولوسي جميلة طبعاً "
كانت كلير تتنفس بسرعة ، وقد انقبضت يداها. مما دفعه الى النظر اليها بتفكير عميق:
"ها أنت غاضبة مجدداً!"
" كدت تقضي على حياة لوسي ، ثم تتحدث عن قطعة من الفسيفساء، فكيف تتوقع مني ألا أغضب ؟ "
ومالبثت أن تذكرت ما أخبرها به عن طفولته، عن الكلام، وهي تعض شفتها، ثم قالت على نحو نزق:
" أظن أنك لا تستطيع ألان أن تتلاعب بحياة الآخرين، فأنت لم تتعلم قط أن تهتم بغيرك من الناس"
" لا تبدأي بهذه الثرثرة التحليلية يا كلير! فأنا أهتم فعلاً بغيري من الناس، والا لما شعرت بالاسف على حال لوسي. لقد عرفت أنها تعيسة ، لأنها قصت علي مشاكلها. وبقيت لساعات متتالية تخبرني عن مايك وزواجها ، وكل العناء الذي تتكبده في المدرسة، وعنك وعن عائلتك. أنا اكتفيت بالاصغاء اليها، وهذا كل ما أرادته مني. كل ما أرادته هو أن تتكلم من غير ان تتلقى أوامر."
فردت كلير بمزيج من الحدة والغضب:
" أتسخر مني؟ "
" في الواقع حاولت أن تديري حياتها، اليس كذلك؟وقد أثبت ذلك حين أرسلتها على طائرة لتلحق بخطيبها، من غير أن تدرسي الوضع جيداً. كما لجأت إلى أساليب ضخمة كي تنقذي وجههة نظرك، حتى ولو كانت تقضي بربطي بسلسلة لساعات كالكلب. "
" سبق وقلت إنني آسفة. "
فسألها ،والظلام في عينيه يدق ناقوس الخطر في رأسها :
" وهل أنت آسفة لأنك أفقدتني عقلي أيضاً؟ "
وما كان منها إلا أن نهضت عن السرير ، وهتفت :
" علي أن أمضي الى العمل..."
لكنها لم تتمكن من أن تخطو خطوة واحدة. فقد قبضت يدا دتزل على خصرها ، وجذبتاها مجدداً الى السرير. حاولت أن تخلص نفسها، لكنها لم تنجح الا في الميل نحوه بعجز، مما دفعها الى إطلاق صرخة رعب.
أما دنزل ، فأحاطها بذراعه.وصدمها الإحساس الذي تملكها ، ما إن شعرت به قربها.
إلا انها ما لبثت أن قالت :
"سأقتلك..."
قاطعها وهو ينظر اليها من خلال أهداب تكاد تنسدل ، ويبتسم تلك الابتسامه المعذبة:
" حقاً؟ عادة ، لا أصدق تهديداً كهذا، إن صدر عن معظم النساء، لكنك امرأة غير عادية. وأظنني عرفت ذلك منذ التقيتك للمرة الاولى . قد انتابني إحساس غريب حين نظرت اليك. أنت متقدة العاطفة يا كلير، ولطالما ظننت أن الجليد وحده يملأ شرايينك . لكن يا إلهي ، كنت مخطئاً ، اليس كذلك؟"
ودنا منها ، فراح قلبها يخفق بعنف، حتى عجزت عن التنفس . القرب منه عذاب حقيقي. أنها تحبه بشدة وتشعر بأنها تكاد تجن . لكنها لم ترد أي علاقة به، وهي تدرك تماماً أنه لا يحبها، بل أثارته ذكرى الليلة الماضية ليس إلا. ومع انه عانقها بشغف أوهنها، ظلت هذه الافكار تساورها.وهي تعرف قدرة دنزل على الاغواء، فقد راقبته، وهو يمارس ألاعيبه مع غيرها من النساء...مع هيلين...ومع أختها. لكنه لن يمارس أي لعبة معها. فتذمرت ،وحاولت أن تناضل أو أن تضربه ليبتعد عنها ويطلق سراحها .
" لن أفعل ذلك. والان ، دعني ارحل ...فأنا لا أريدك... "
لم يتحرك من مكانه ، بل أخفض بصره الى وجهها المتورد وعينيها القلقتين، وفمها المرتجف، قبل أن يهمس: " كاذبة. هل تظنين أنني عاجز عن اكتشاف ما يجري في داخلك؟ هل تظنين أنني نسيت كيف عذبتني الليلة الماضية؟ "
ثم أمسك بيدها وجذبها نحوه، وسجنها بين ذراعيه، وراح يستمع الى وقع تنفسها العنيف، ويراقب التوهج القرمزي على وجهها .
" لاتفعل! "
وسألها بصوت أجش أجفلها :
" هل تعتقدين فعلاً أن بإمكانك دفعي الى حد الجنون ، ثم الاكتفاء بالرحيل، وتركي طيلة الليل أسير الاحباط؟ "
" لم ...لم أقصد... أن أثيرك... بل لم اقصد أن ألمسك على الاطلاق..."
" لكنك فعلت يا كلير، سواء إدعيت بأنك تقصدين ذلك أم لا! "
" توقف عن الحديث عن الامس! لقد فقدت عقلي، وقد أصبت بقليل من الجنون لكني لم أقصد شيئاً... ولن يتكرر ذلك أبداً، لذا دعني وشأني فعلي أن أمضي الى عملي، وعلي أن أدير وكالتي . وإن لم أفتح بابها ،فستقلق عائلتي وتبدأ بالبحث عني . ولا شك في أنهم سيأتون الى هنا ! "
تحرك دنزل وكأنه سينهض. فما كان منها إلا أن أنتظرت بترقب، وهي ترجو أن يكون متعقلاً، أملت أن تسنح لها الفرصة للهرب. لكنه اكتفى بمد يده الى الوسادة، وهو يتمتم:
" ليس بعد .ولعلهم لن يبدؤوا بالبحث قبل هذا المساء. ومازالت أمامنا ساعات قبل أن نتوقع تدخلاً ما "
فإذا به يمسك بذراعها الاخرى، ويلويها الى ما فوق رأسها.
وبعد ثانية ، تناهى اليها صوت معدني ، ثم طقطقة عالية، وما لبثت أن أحست ببرودة حول ذراعها. فحملقت فيه وكأنها غير مصدقة. ولم تنجل أمامها الحقيقة إلا بعد دقيقة من اللأقوى؟

لبرهة نزل الرعب في قلب كلير، ومالبثت أن استبدت بها ردة فعلٍ تماثل الصاروخ اندفاعاً. فصرخت في وجهه :
" انزع هذه عني ! "
قهقه وسألها :
" ترى ، أين سمعت هذه الجملة قبلاً؟ "
حدقت فيه، وقد استحال وجهها قرمزياً:
" هذه الحالة مختلفة، فقد شرحت لك لماذا اضطررت الى ..آه لا تتصرف بهذه الحماقة، فرد الضربة بضربة عمل سخيف . أعطني المفتاح قبل أن أفقد أعصابي "
وعوضاً من أن ينفذ طلبها، رفع المفتاح أمام عينيها ،وهو يبتسم ، فيما فاضت عيناه الرماديتان بوميض من السخرية. ولما مدت يدها لتتسلمه، رمى به الى اقصى الغرفة.فارتطم بالباب ، ثم ارتد عنه، وانزلق تحت الأدراج قرب الحائط.
فانتفضت كلير من الغيظ، ثم أطلقت صرخة عكست غضبها الشديد :
" آه، أنت رجل غبيّ "
حاولت أن تقفز عن السرير ، عساها تبلغ المفتاح، لكن دنزل كان أشبه بجبل لا يتحرك فلا هي تستطيع أن تنهض من دونه، ولا بمقدورها أن تحركه. أما هو، فبقي مستلقياً ،يحدق فيها برقة، وهي تشد بيدها بعيداً عنه بلا جدوى.
وأخيراً نصحها :
" ستؤذين نفسك، ان استمريت في ذلك "
" آه، أصمت! "
" كما أنك لن تصلي إلى أي مكان ، من دوني على أي حال. وبما إنه لا نية لي في التحرك، وبما إنني سألازم مكاني هذا ، فستبقين هنا أيضاً. "
وما كان من كلير إلا أن جلست على حافة السرير ، بمزيج من الغيظ واللهاث، وأدارت له ظهرها ، وهي تحاول أن تفكر في ما يمكنها أن تفعله. كان عليها أن تتوقع تصرفاً كهذا. فكيف بلغ بها حد ترك القيود في متناول يده، هذا عدا عن ذكر المفاتيح؟
كانت تتوق فعلاً الى الهروب ليلة أمس، لدرجة أنها اندفعت في تصرفاتها من دون تفكير . ومن الخطر ألا يقوم المرء بدراسة أي خطة من جوانبها كافة، لاسيما مع رجل كدنزل. فمن المؤكد أنه سيستغل كل خطأ ترتكبه، أو كل ثغرة تنساها. وبدأت يد دنزل تدنيها منه ، وتبعث الارتعاش فيها.
" لا تفعل ذلك! "
وما كان منه إلا أن جذب القيد فجأة، ففقدت توازنها. ولما انطرحت الى الخلف بعجز، سجن دنزل خصرها في ذراعه الطليقة.
فأطلقت كلير صرخة احتجاج ماتت فيها الكلمات ،ثم رفعت رأسها وقد اتسعت عيناها بتأثير الصدمة ، ونظرت الى الوجه المنحني فوقها.
وما لبث أن تمتم بنعومه:
" لا تقولي إنك خائفة. فأنت لا تخافين يا كلير! المرأة التي تلاعبت بي كما فعلت الليلة الماضية لا تخاف. صحيح أنني قلت لأختك لا تستطيع التمثيل أما أنت فتجيدينه. بحق السماء! بل أنا عاجز عن تعدد الادوار التي مثلتها أمامي! من المعبودة الباردة، الى امرأة الاعمال القوية، فالإبنه والأخت المحبة، ومدبرة المنزل الماهرة... أما ، ليلة الأمس..."
ثم توقف عن الكلام ليرمقها بنظرة جليدية ساخرة:
" ماهو الدور الذي كنت تمثلينه ليلة أمس على وجه التحديد يا كلير؟"
فابتلعت ريقها. وهنا ابتسم مجدداً بطريقة جمدت الدم في أوصالها.
" أم أنك لم تكوني تمثلين؟ "
وكادت عيناه الرماديتان تختفيان وراء رموشه في وميض زرع فيها الرعب.
ولما خيل إليها أنها ترى طريقاً للخلاص، قالت بوحي فجائي :
" بالطبع كنت أمثل !هذا ما كنت أفعله بالضبط، كنت.."
وجاهدت لتفكر في تفسير مقبول ، ثم أردفت أخيراً، من غير أن تكذب تماماً:
" كنت ألقنك درساً حينها، أقنعت نفسها بأنها تظهر له شعور المرء بالحجز.
وتابعت وهي ترمقه بنظرة مباشرة باردة :
" لم تسنح هذه الفرصة لضحاياك .لكن آن الأوان ليعلمك أحداً ما كيف يشعر المرء حين يتعرض للاستغلال والهجر! "
كان قد توقف عن الابتسام، واجتاح الغضب وجهه على نحو أفقدها رباطة جأشها، اذ ينذر دنزل بالخطر في غمرة غضبه، وما لبث أن رد بحدة:
" سبق وأخبرتك أنني لم أستغل أحداً! وتوقفي عن التحدث عن ضحاياي ، والا بدوت كقاتل محترف! "
فبادرت الى القول : "هيلين.."
" لقد شرحت لك قبلاً عن هيلين .فلم تفتحين الموضوع نفسه مجدداً؟ حين التقيت بها ، كانت تعاني من اليأس بعد طلاقها ، فتعلقت بي ، لأنني كنت غريباً لا أعرف زوجها .بل كنت مستمعاً جديداً، إذا شئت القول . وكان بامكانها أن تلقي بحملها كله علي، وهي تدرك تماماً أنني لم أثير الاشاعات ، نظراً الى أنني بالكاد أعرف مخلوقاً في غرينهاوي. "
فأجابت بنبرة فاترة:
" أصدق كلامك، لكن ،إياك أن تخبرني أنك لم تلمسها قط! "
عندئذ، رمقها بنظرة جفاء وقال:
" إنها جميلة، وأعجبت فيها في البداية. لعلي عانقتها مرات عدة ، لكن من الصعب أن ترتبطي بأمرأة لا تكف الحديث عن زوجها ، ولم أتخطى حدودي مرة إن كان هذا ماتسألين عنه فعلاً "
لكن كلير لم تصدقه، وسرعان ما سألته بغضب:
" هل تعني أنها كذبت علي حين أخبرتني أنها مهووسه بك؟ "
فهز كتفيه بنزق:
" لا أدري ماذا أخبرتك. ولا أملك أدنى فكرة عن حقيقة مشاعرها حينها يا كلير. ولذا لا أستطيع الكلام إلا عن نفسي .فأنا لم أغرم بهيلين ، ولم ألمسها قط "
ولم تملك إلا أن تصدقه، فالسخط المصقول على وجهه بدا غاية في الاقناع، لاسيما حين أغلق عينيه بتنهد وأضاف :
" هل تريدين مني لائحة مفصلة بكل النساء اللواتي مررن بحياتي ، وبما فعلته بهن؟ "
فردت بحدة :
" كلا طبعاً. لكن ما من داع لتتفاجأ، اذا ظننت أنك من النوع المتلاعب ، فالامر لا يقتصر على هيلين وحسب.وماذا عن لوسي ، وتلك الممثلة التي لا أعرف اسمها..."
" عاشت بيلا حياة مأساوية ، لكن لا شأن لي بهذا. بل على العكس، منحتها الفرصة، غير مرة لتنتشل نفسها من الهاوية.كما عرضت عليها دوراً في فيلم ، أحالها الى نجمة كبيرة منذ الإطلالة الأولى . وجاهدت لأبعادها عن المخدرات ، لكن ، كيف للمرء أن يساعد أناساً لا يرغبون في تلقي المساعدة؟ كانت بيلا تكره نفسها، وتبغض الحياة ، ولطالما تمنت الموت . وبدت لي حياتها محطمة قبل أن ألتقي بها بوقت طويل. "
والتفت إلى كلير بغضب، وأكمل :
" أخبرتك بكل هذا من قبل... "
فأومأت برأسها:
" أذكر ذلك،لكن.."
" لكنك لم تصدقيني؟ "
كان صوته عميقاً، قاسياً، لا سيما حين تابع :
" لا يمكنني أن أجبرك على تصديقي ، فعلي أن أتقبل هذا الواقع. "
ولما صعقها وجهه الغاضب ، وضعت يدها على كتفه ، بدافع غريزي وقالت :
" أنا آسفة ...وأصدقك فعلاً "
لكن الغضب لم يتلاش عن وجهه:
" إذاً، لمَ سألتني مجدداً؟ "
فعضت شفتها ، وقالت بنبرة تقارب النحيب:
" لست أدري...فقد توقفت عن التفكير بمنطقٍ "
عندها لوى فمه بعبوس وقال:
" أتعنين أنك تملكين فكرة ثابته عني، وأنني مهما شرحت لك خطأك، ستنظرين إلي دائماً كأنني نوع من ...ماذا دعوتني في المرة الماضية؟ مصاص دماء عاشق؟ "
فأجفلت كلير:
" نعم ، أنا آسفة. وأظنني أفكر في ذلك منذ التقيتك للمرة الاولى ، حين اصطحبتك وهيلين لرؤية البحيرة السوداء.في الواقع، ظننتها في البداية تتعاطى المخدرات ، فعيناها بدتا ناعستين ، ورغم ذلك ما انفكتا تلمعان .ومن ثم أدركت أنها متعلقة بك لا بالمخدرات، واستنتجت أنكما عاشقان . لكن هيلين لم تكن سعيدة .وعلى مر الأشهر المقبلة، ازدادت حالتها سوءاً.وبدا لي أنها تعلق عليك آمالاً كبيرة، وتزداد نحولاً ووهناً يوماً بعد يوم، إلى أن أغمي عليها في الشارع ذات مرة. "
" وألقيت اللوم علي مباشرة! "
فأجابت وقد احمر وجهها :
" في الحقيقة، فيمن عساي أفكر إذا ،وقد أعطتني هيلين نفسها انطباعاً أنها تعيسة بسببك؟ عندئذ رد دنزل بمرارة:
" كمعظم النساء، وجدت صعوبة في الاعتراف بالحقيقة، وهي أنها تريد استرجاع زوجها . لكنها ظنت أنه لم يعد يحبها، ومنعتها الكبرياء من الافصاح عن حبها. وقد تذرعت بي، واتخذتني عذراً عاطفياً.فان سألها أحداً لم تبدو كالاموات ، المحت الى انها مغرمة بي "
كان فمه قوياً، وكانه يمسك بزمام انفعاله.
" إن كان من تعرض للاستغلال ، فهو أنا ! وقبل أن تخوضي في موضوع أختك ، أذكرك أنني لم ألمسها بإصبع قط! "
ردت :
" ليس حتى الآن، على الاقل "
فأجابها بحدة:
" هل تتهمينني فعلاً بملاحقة هذه الدمية الصغيرة الجميلة ؟ لاشك في أنك مجنونه ، فالمرأة التي ألاحقها منذ جئت الى غرينهاوي هي أنت! "
وأوشك نفسها على الانقطاع، فحدقت فيه، وهي تهز وجهها الشاحب ، وتقول:
" لم تكن تلاحقني! "
" حاولت ذلك ، لكن كلما ظهرت ، صفقت الباب في وجهي. ولمدة ، ظللت أرفض الإستسلام ، فاتصلت بك ، وحضرت الى مكتبك ، وحاولت أن أواعدك. ومن ثم أخبرتني أنك على علاقة جدية برجل آخر. "
أجفلت ، ثم تذكرت ما أخبرته به ، فتورد وجهها مجدداً وقالت :
"آه ، أنت تقصد جوني..."
فنظر في عينيها بحدة يقظة:
" نعم ، جوني بريتشارد. لم أعرف من تعنين في البداية . وصادف أن سألت لوسي عن هوية صديقك جوني ، فأخبرتني مباشرة أنك تخرجين مع محامي، ثم ضحكت وقالت إنك تبدين مجنونة به، رغم أنه ممل جداً. وبالطبع ، وافقتها الرأي، بما أنني كنت أعرف بريتشارد. ولكن مامن معيار محدد للذوق، ومن النساء من يحب أغرب الرجال. "
دافعت كلير عنه بحدة:
" لجوني مميزات كثيرة ، فهو ساحر، وعاطفي ووسيم.."
ثم أضافت :
" كما أنه محب للحيوانات ولطيف مع أمه "
" نعم ، أعرف ، فقد قلت أنني التقيت به ، وبأمه أيضاً. وهي بالمناسبة قبيحة، وأشك في أنها قد تقبل بك. "
فما كان من كلير إلا أن رفعت ذقنها بانتصار:
" في الواقع ، إنها تحبني . وقد عرفتني طيلة حياتي، لكنها لم تحب زوجة جوني السابقة، وأظن انها ساعدت على فسخ علاقتهما.أما أنا، فلطالما أحبتني دائماً.كما إنني أحب جوني أيضا ً"
لكنه علق ببرودة:
" لكنك كذبت حين أخبرتني أن العلاقة جادة فاتخذت موقفاً عدوانياً"
" ومن قال ذلك؟ "
" أنا! "
وما أن أتم كلامه ، حتى أمسكت يده الطليقة بذقنها ، وأرجعه الى الوراء ، فحاولت كلير أن تتحرر من قبضته ، لكنه أمسك بها بإحكام، وهو ينظر إلى عينيها الزرقاوين اللتين اتسعتا إنذاراً بالخطر.
وأضاف بنعومة ، فيما الدم الحار يجري في جسدها كله :
" ما كنت لتعانقيني كما فعلت الليلة الماضية ، لو أنك تحبين رجلاً آخر يا كلير"
" لا يمكنك التأكد من ذلك ! فقد قلت بنفسك إنني أجيد التمثيل. ضحك وعلق :
" لكن ماحصل أمس لم يكن تمثيلاً يا كلير "
فهتفت وفي صوتها شيء من اليأس:
" أنت لا تعرفني "
" بل أعرفك أكثر مما تظنين .فخلال كل تلك الاسابيع ، كنت أعمل مع أختك، وأتعلم عنك ما استطعت. بالطبع ، غالباً ما تتكلم لوسي عن نفسها ، لكن لا يسعها أن تذكر نفسها من دون أن تتطرق الى عائلتها بمن فيها أنت . وهكذا ، عرفت عنك الكثير، من الكتب التي تقرأينها، الى فطورك المفضل. "
ولمعت عيناه وهو يضيف :
"وأخبرتني أيضاً أنك شاهدت أفلامي مراراً تكراراً. "
فتوردت بشرتها ، وهي ترد :
" في الواقع، كنت أشعر بالفضول نحوك، لأنني خفت على...على لوسي، ففكرت في أن أفلامك ستنبئني عن نوعية الرجل الذي فيك، والى أي مدى أستطيع الوثوق فيك "
فتشدق في كلامه:
" وهل صدق ظنك؟ "
ردت بلهجة بعيدة:
" تعلمت الكثير. "
وراح يضايقها بنعومه خطفت النبض من قلبها لبرهة:
" وماذا تعلمت؟ وبالحديث عن ذلك، مارأيك بأفلامي؟ هل استمتعت بها، حينما أعدت مشاهدتها؟ "
فتلعثمت :
" إنها جيده جدا ً"
ثم سألها دنزل وأصابعه تتلاعب بخصلات شعرها :
" هل كانت حياتك العاطفيه مذهلة في الماضي؟ "
فردت وهي لا تستطيع أن تخفي غيرتها:
" أتعني كحياتك؟ "
وتابعت يده مسيرتها على وجهها برقة ، وهو يتمتم :
" لطالما أحتلت حياتي العاطفية المرتبة الثانية بعد عملي، يا كلير. لم أكن أملك الوقت الكافي لألتقي أحداً خارج نطاق عملي. وحين أقوم بإخراج فيلم ، ألتقي عادة بإمراة أعجب بها كثيراً، وأظن أنني سأقع في غرامها .لكن ما إن ينتهي الفيلم، حتى أنتقل إلى غيره، وهي كذلك، فتقل لقاءاتنا تدريجياً، وتنتهي العلاقة عاجلاً أمآجلاً. وهكذا هي الحال في مهنتنا "
ثم تابع :
" لم تجيبي عن سؤالي يا كلير. أخبريني عن حياتك العاطفية "
" لابد انك تعرف كل شيء عني من لوسي. "
ومافائدة الكذب الآن ؟فلا شك أن لوسي كانت صريحة في ما يتعلق بحياة أختها العاطفية المملة.
وما لبثت أن أقرت وهي تلاحظ ابتسامته :
" لم تكن مثيرية الى حد تخطف فيه العقول "
" وهذه هي حالي أيضاً، فبعد طفولتي ، منعني حذري من المجازفة. "
فتنهدت كلير:
" إن الحب مجازفة، أليس كذلك؟ أعرف ماذا تقصد فلقد وقعت في الحب مرة ، ثم جرحت جرحاً بليغا ً"
فاحتدت عيناه:
" أكان الشاب الذي حاول التودد إليك ليلة الميلاد؟ "
فأومأت برأسها ، مما دفعه الى النتابعه بهدوء:
" إذاً، أغرمت به مرة "
" ظننت ذلك لمدة ، لكني أدركت أنني لم أبد نحو هال التزاماً حقيقياً.ففي ذلك الوقت ، كان علي أن أهتم بأولويات أخرى هي عائلتي، اي أخوتي ووالدي .كانوا يحتاجون الي، أكثر من هال . وما كان علي أن أتفاجأ حين رحل مع امرأة أخرى ، فلا شك أنها منحته ما لم أفعله. وكل علاقة ترتكز على شخصين ويتوقع الناس أن يستردوا ما يمنحونه. وبما أنني لم أعط هال ما أراده ، فقد رحل بحثاً عن مبتغاه في مكان آخر.
بدا ثغر دنزل ملتوياً، واستحالت نظراته عنيفة ومتفهمة، وهو يقول :
" تبدين كإنسانة باردة يا كلير، وقد خدعتني لفترة .لكن ، في الليلة الماضية ، أدركت أنك لست بالبرودة التي تدعينها. "
فتجنبت نظراته وهي متوردة الوجه:
" في الواقع، أظن أن كلانا بارد. "
" انتظرت كل حياتي انساناً أستطيع الوثوق به.لكن ، بما أنني لم أكن أثق بأحد ، خاف الناس مني، مما ضاعف شكي فيهم . ولم تبن علاقاتي على اسس متساوية قط.فإما أن الفتاه تخضع لي ، فأحتقرها ، وإما أنني استحيل صديق المرأة المفضل. ومع أنها تستغلني لتلقي علي بحمل مشاكلها ، الا أنها تعود وتحتقرني من جراء ذلك. "
أجابت كلير بنبرة جافة :
" يبدو لي إنك تعرف هيلين ولوسي جيداً .كما أنك تدعي معرفتي أيضا ً"
وما كان منه الا ان ضحك على نحو فظ، وقال :
" أعتبر علاقتي بهيلين ولوسي نموذجاً واضحاً عن كل علاقاتي مع النساء حتى الان. ولطالما دفعني الفضول الى الرغبة في اكتشاف أفكار النساء... أحب أن أصغي إليهن فيما يتكلمن ، وأحب أن أدفعهن الى الحديث عن أنفسهن ، وعن مشاعرهن، وعن طموحهن في الحياة.وبقيت أتمنى لو أستطيع التوغل في أذهانهن، عساي أفهم الواحدة منهن جيداً،لكن أمالي ذهبت أدراج الرياح.فلم أفهمهن قط كما فهمت الرجال. وأظن أن الرجال لا يفهمون النساء أبداً، فعقولنا غاية في الاختلاف"
فعلقت كلير بحدة ، وهي تدفع يده بعيداً عنها:
" يالهذا الهراء !وهلاّ توقفت عن العبث بشعري ؟ "
" لن تقولي لي ان الرجال والنساء متشابهون، أليس كذلك يا كلير؟ "
" كلا طبعاً، نحن مختلفون لكن... "
قاطعها، ووميض قاس في عينيه:
" في تلك الاشهر، فكرت فيك ، حتى أثرت حيرتي .وقضيت وقتاً طويلاً، وأنا أحاول فك لغزك. لكني لم أحلم قط بكل هذا الشغف المسجون في قلبك.وحين بدأت تعانقينني ، فكرت في أنك أصبحت لي أخيراً. ولكن ، قبل أن أدرك ماذا يجري، رحلتِ، لتتركيني في حالة من اليأس.وهجرني النوم لساعات، أما الآن ،فستعوضينني عن كل هذا.ونظر في عينيها،وسألها :
" أنت تحبينني فعلاً، أليس كذلك يا كلير؟ "
" نعم "
نطقت بالحقيقة على الرغم منها، لا سيما أنه لم يترك لها مجالاً للكذب أو التظاهر، أو أخفاء المشاعر. قال :
" كلير...أظن أنني لن أفهمك أبداً. كل ما أعرفه هو أنك تجرين في دمي، ولا أستطيع التفكير في سواك. وبعد الليلة الماضية، قد أرتكب جريمة في مقابل ضمك بين ذراعي "
وفي هذه اللحظة بالذات ، شعرت بأنها تحلم ، كما حلمت عشية الميلاد، قبل أشهر ، وكما كانت تحلم طيلة حياتها بذلك الرجل الذي يقبل اليها من خلف ستار الليل ، ليحملها ويرحل بها.
وبتأوه حاد، تاقت الى أن يعانقها. وعندها فقد أدركت أنه عناقهما الحقيقي الأول.ففي الليلة الماضية ، بقيت تعذبه وترفض أن يدوم عناقهما أكثر من ثانيه. أما الآن، فدنزل هو المسيطر.
" يا إلهي ...كلير...أنا...أنا أحبك. "
أحست كلير بالدموع تحرق عينيها ، وعجزت عن الكلام . أما هو، فأخذ يهمس:
" أنا مجنون بك منذ مدة طويلة، منذ اليوم الأول...في مكتبك...كنت غاية في البرودة والخشونه، بل شقراء باردة في عينيها تهديداً صريح.فألقيت عليك نظرة، ووددت أن أعرف الى أي مدى يمكن للجليد أن يذوب "
فردت من غير أن تتفأجأ:
" أحقاً؟ "
ألم يكن هذا ماشكت فيه؟ فضحك وأجاب :
" نعم ، لقد أعجبت بك بشده منذ البداية، لكنني أغرمت بك عشية الميلاد، حين جئت الى منزلك ، ورأيتك نائمة في كرسي أمام النار...ثم فتحت عينيك، ونظرت الي بطريقة عصرت قلبي عصراً. وكان شعرك الجميل يغمر المكان، ووجهك متسخ متورد. وللمرة الأولى منذ عرفتك، بدوت لي إنسانة حقيقية تنبض بالحياة. وتملكني رغبة قوية في معانقتك، منعتني من النوم طيلة الليل، وأنا أفكر فيك "
عندئذ أجابت بصوت أجش:
" كنت أحلم بك "
فاتسعت عيناه، وتناهى اليها انحباس أنفاسه:
" كلير!ماذا حلمتِ؟ "
لم تشأ أن تعترف ، وقالت :
" لا أذكر ولكنني فتحت عيني حين فتح الباب، وأبصرتك أمامي.فلم أعرف أن كنت أحلم أم لا، إلا حين رأيت أبي ولوسي والآخرين وراءك في الرواق "
ولم تعتقد أن الوقت مناسب لتخبره تفاصيل حلمها .ولعلها لن تخبره أبداً.
" ليتني عرفت...لكناّ وفرنا الكثير من الوقت الضائع. "
وحاولت كلير أن تحيطه بذراعيها ، ولكن القيد أفشل مرادها ، فسألته:
" ألا يمكننا أن ننزع القيد الآن "
فأشار عليها:
" سيتوجب علينا النهوض والبحث عن المفتاح "
وكرهت أن تقطع تلك اللحظة السعيدة التي تجمعهما ، وقالت :
" لننتظر قليلاً إذا ً"
وبدأت يدها تداعب شعره وتنعم بدفء ملمسه ...وراحت تهمس له:
" أحبك...علمت أنني سأحبك منذ رأيتك.."
فعانقها بعنف، ثم قال:
" بل كرهتني منذ رأيتني يا كلير، وقد أوضحت ذلك جيداً "
عندها ، اعترفت :
" بل كنت خائفة منك، خائفة من حبك، خائفة من الألم. ولم أرد أن تسيطر علي "
فسألها ، وفي صوته تلهف خفي:
" وهل أسيطر عليك؟ "
اختلست كلير النظر اليه من تحت أهدابها. وعرفت أنه من غير الحكمة أن تخبره أنه يمارس عليها سلطة قوية ورهيبة . ومالبثت أن قالت:
" أحبك...ألا يكفيك هذا؟ "
وفكرت في أنه لن يعرف أبداً أن الحب هو القوة الوحيدة التي كانت تخشاها دوماً.
وأمسك دنزل بيدها الطليقة، وقبل راحتها بعمق وحرارة، وعيناه مغمضتان، وعلى وجهه عاطفة تواقة ، وقال :
" أنت تسيطرين علي كلير. وأنا لك بكاملي. ولو أن هذه لا تعد قوة ، فماذا يبقى؟. "




 
 توقيع : عاشقة الدموع


إن قـدر الله مـع الأيـآم نتـوآآجـه
تمـر مثلـك مثـل نآس(ن) يمرونـي
في عيوني تصير مآتسـوى ولآ حآجـه
من عقب مآكنت تسوى الناس في عيوني


رد مع اقتباس