عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-08-24, 03:13 AM   #3


الصورة الرمزية عاشقة الدموع
عاشقة الدموع غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 48
 تاريخ التسجيل :  Dec 2008
 أخر زيارة : 2024-04-06 (08:39 PM)
 المشاركات : 43,827 [ + ]
 التقييم :  34274
 الدولهـ
Saudi Arabia
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~
كَانكِ لقَيتِ اللَي تظلِى بظلهَ


اَناِ لقيَت ِاللَي وطاكِ وركعليَ
لوني المفضل : Crimson
افتراضي رد: البحيره السوداء



قلت له انك لن ترغبي في رؤيتي مجدداً.لكنه أكد أنك نسيت الامر وسامحتني على مامضى ، وأنه الميلاد على كل حال..."
وفاضت عيناه الزرقاوان تفاؤلاً.كان اشقر ،ناعم البشرة، وعلى وجهه سمات طفولية، وسحر فائض تعود أن يتكل عليه.مما دفعها الى التساؤل عما عساه يفعل حين تمر عليه السنين، ويفقد ذلك السحر الصبياني الذي يتميز به.
" هل عدت لقضاء الميلاد مع أهلك؟ "
وكانت تعرف أن أباه وأمه أمضيا الميلاد المنصرم مع زوجته وطفلهما.وأبوه يملك متجر خرداوات في البلدة، وقد التقته في أحد أيام الربيع الفائت، فراح يتحدث بلا هواده عن حفيده ونجاح ابنه متجاهلا ما اقترفه ولده في حقها.الا ان زوجته لطالما بدت محرجة عند لقائها بكلير.
" هذا صحيح .وحين مررت "بتاون هول"ورأيت الكورس يغني ،لم استطيع مقاومة الرغبة في الانضمام اليهم. وقد استعدت العديد من الذكريات الجميلة. "
ثم أخفض بصره وتنهد ،قبل أن يردف :
" كلير.... من الرائع ان اراك. انت اجمل مما اتذكر،وانا لم انسك مطلقاً ،وانت أيضاً، أليس كذلك ؟ "
فأجابت بحدة:
" في الواقع، بما أنك متزوج ولك طفل.فعد الى الباقين يا هال،واتركني وحدي "
أمسكها بكتفيها، وقد علت الاثارة وجهه:
" سأفعل بعد دقيقة ،ياكلير ,ولكن امنحيني قبلة واحدة أولا ً"
كانت على وشك أن تدفعه بعيداًعنها ،حين أمسك به شخص آخر ورمى به الى أقصى الغرفة.
" لقد سمعتها ! أخرج من هنا! "
فعجزت كلير عن التعبير. وما كان منها الا ان حدقت في دنزل ذاهلة وقد اتسعت عيناها الزرقاوان ارتياعاً.
أما هال، فاصطدم بالجدار عند الباب محدثاً صوتاً مكتوماً.وملأ الغضب وجهه الوسيم ، ثم تطلع الى دنزل وهو يشد قبضتيه استعداداً للعراك.
فنصحه دنزل بنعومه: " لاتفكر في ذلك حتى! "
توقف هال فجأة ،وكأنه يعيد التفكير في الامر لاسيما بعد أن سمع نبرة دنزل الامرة .بدا متردداً،قبل ان يحملق فيه ويدمدم: " لاتستحق العناء".
ثم اختفى. أما دتزل ، فنظر الى كلير وقال متشدقاً:
" أهذا هو الشخص الذي وضعك في مخزن بارد؟ كنت أعرف أن الامر يتعلق برجل.فلا بد من وجود سبب لهذه الطبقة الجليدية التي أصطدم بها كلما تكلمت مع امرأة جميلة مثلك "
فأجابت كلير بحدة:
" ولم تفكر طبعاً في ان حدتي تعود لتصرفاتك! اذا لم يغمى علي في الدقيقة التي رأيتك فيها ،فهذا لا يعني أني أشكو من عيب "
بدا متسلياً:
" شيء من هذا القبيل ،عرفت أنك مررت بتجربة فاشلة ذات مرة،لكن علي الاعتراف بأن ذوقك قد خيب أملي.ماذا أعجبك في هذا الرجل بحق السماء؟ "
فأجابت وصوتها يقطر جليداً:
" أما أنا ،فكنت أتساءل مالذي يعجب النساء فيك"
ومالبثت أن اخرجت وعاء كبيراً من القشدة ،وناولته إياه قائلة:
" هلا تكرمت وسلمت هذا للباقين؟ "
لكنه لم يطعها ، بل نظر اليها من خلال أهداب كسولة ،وابتسم ،ثم أضاف:
" ألا اتلقى شكراً لأني وفرت عليك عناء صفعة؟ "
فتمتمت بفتور: " شكرا َ"
وسرعان ماقهقة :
" في يوم ما علي أن اكتشف أن كان الدم يسري في شرايينك "
وابتعد حاملاً الوعاء ،فيما تسمرت كلير في مكانها وهي تحدق فيه، وجسدها يرتعش، وقد تذكرت الحلم الغريب،اضافة الى الرعب والانفعال الذين تملكاها.
ابتعد عن اختي!

فترة مابعد رأس السنه ،مر عمل كلير بفترة ركود ،فقلة من الناس يفكرون بتغيير بيوتهم في الشتاء.وكان هذا موضوع حديثها مع جوني برتشارد، المحامي الذي تولى معظم مهمات هيلين في فترة نقاهتها الطويلة. بدا جوني متعاطفاَ ،ووافق :
" انا اتلقى قسما كبيرا من دخلي من السماسرة أمثالك! لكنني محظوظ بالحصول على وصايا أعتمد عليها ،إذ يميل عدد كبير من الناس الى الموت في الشتاء، وكمنفذ لوصاياهم،أتلقى أجراً لابأس به. "
كان جوني رجلاً لطيفاً، في أوائل الثلاثينات اشقر وضعيفاً.وقد فشل زواجه بعد سنوات ،ولذا عاش مع والدته في شقة على الساحل .وتقول الاشاعات المحلية إن أمه تسببت بالطلاق، لكنها لطالما كانت لطيفة مع كلير منذ عرفتها قبل أعوام انقضت. وتابع جوني :
" قالت لي أمي أمس انه علينا أن ندعوك على العشاء قريباً. فمتى يمكنك المجيء؟ هذا الاسبوع؟ "
ترددت كلير لبرهة،ثم ابتسمت له:
" حسناً، مارأيك في يوم الاربعاء؟ "
رحبت بها السيدة برتشارد،وأعدت لها طعاماً خاصاً،ثم أصرت على ان يعزف لهما جوني على البيانو بعد العشاء.استمتعت كلير بتلك السهرة ،ومالبثت أن دعت جوني بدورها الى منزلها بعد أسبوع. ولاحقاً،قالت لها لوسي بتشكيرة:
" انه هاديء ،جداً! ماذا ترين فيه؟ اظن أنه جدير بفتاة أخرى ،نظراً لأنه يتلقى مدخولاً كبيرا.لكن،صدقاً كلير، انه يخلو من الاثارة تماما ً! "
لكن كلير لم تكلف نفسها عناء المجادلة ،فهي تحب جوني .ومع انه ليس الحب الذي يدفعها الى الارتباط به،الا أن لوسي لا شأن لها بذلك.
وخلال الاسابيع الاولى من السنه الجديدة ،تساقط الثلج بشدة في البلدة .فتكدس على الارصفة،واستحالت الأشجار نافورات من الكريستال،فيما اتخذ البحر شكلاً شاحباً، غاضباً، عاكساً السماء البارده.
وفي صباح أحد أيا م الاسبوع الباردة ،تمتمت لوسي على مائدة الافطار :
" أرجو أن يكون المكان الذي أستاجره دنزل بلاك دافئاً "
وسرعان مالتفتت الى كلير بعينيها المشرقتين المتسائلتين:
" وأين يقع بالمناسبة. لقد نسيت تماماً.....كلير! أنت لا تنسين أبداً الملكيات التي تهتمين بامرها.أتعرفين؟ لا شك أنه يشعر بالوحدة في هذه البلدة الغريبة ،لاسيما بعد أن عاش في هوليوود. "
ومالبثت أن تنهدت بحسد وأضافت:
" تصوري كل تلك الحفلات والنجوم المشهورين ! لا بد أن الامر رائع! "
فكرت كلير كم ستكره العيش في هيوليوود،فحياة البلدة تناسبها أكثر ثم أجابت بجفاء :
" ربما لا. ولعله لم يأت الى هنا إلا املاً في تلك الوحدة على كل حال، لم يهمك أمر رجل أخر وأنت مخطوبة؟ "
فردت بحدة،وقد احمر خداها:
" الا يمكن ان يكون لي اصدقاء اخرون ،وان كنت مخطوبة؟ "
" لكن، ليس رجالا كدنزل بلاك يالوسي! فالعبارة التي تصفه بحق هي :الرجاء التعامل معه بحذر. "
قهقهت لوسي وقالت:
" كنت اعتقد أنك غير معجبة به لكن يبدو أنك تجدينه ساحراً جداً! "
ولما عبست كلير،سارعت لوسي بالنهوض عن المائدة وهي تقول :
" يا إلهي ، انظري الى الساعه...يجدر بي أن أسرع ،أراك الليلة. قد أتاخر ،إذ لدي اجتماع موظفين بعد دوام المدرسة،وذلك لمناقشة مهرجان الربيع الذي تخطط له "
راحت كلير تراقبها وهي ترحل ،والقلق يعلو وجهها ،فقد بات اهتمام لوسي بدنزل بلاك مزعجاً. ولن يطول الامر حتى تتبلغ الاشاعات مسامع مايك ،ان تورطت معه .فهذه بلدة صغيرة ،ولا مجال لأخفاء الأسرار.
وبعد فترة ، علمت ان البنائين باشروا العمل أخيراً في "البحيرة السوداء".وكان هذا المنزل الأكثر شهرة، لذا تحمس الجميع لفكرة أن يعود لللحياة بعد أن بقي خالياً فترة طويلة. وبعد أسبوع ،وفيما كانت كلير تقفل الوكالة في المساء ،خففت سيارة من سرعتها الى جانبها ،وإذا بدنزل بلاك ينادي: " سأوصلك الى البيت "
هزت كلير رأسها نفياً:
" كلا شكراً سأسير فالمنزل ليس بعيدا ً"
فأمرها وهو يفتح الباب الامامي :" اصعدي! "
واذا بها ترى على الرصيف الاخر اناساً تعرفهم يصغون الى حوارهما وان اكملت مسيرها ،فيما دنزل يتبعها بسيارته ،ويجادلها ،فستتضارب التكهنات وتتنوع. وأدركت بامتعاض انها لا تملك خياراً .فعلا التورد وجنتيها ،وصعدت الي السيارة ، قبل ان ينطلق بها دنزل. ومن غير أن تنظر اليه ،همست بعنف:
" إياك أن تفعل هذا مجددا ً"
فسألها بكل براءة :
" أفعل ماذا؟ أتبرع بإيصالك الى منزلك؟ ومالعيب في هذا؟ "
التفت اليه بحدة وأجابت:

" كان عليك أن تنطلق ما ان رفضت، بدل ان تزعجني أمام كل هؤلاء الناس! "
" ولم تهتمين بآرائهم؟ "
" انها بلدة صغيرة ،ولا احب ان اكون موضع حديث. "
لوى فمه سخرية وقال:
" ستعتادين على هذا ان كنت مضطرة ،فعلى المرء ان يضع قناعاً أو اثنين "
رمقته بنظرة جانبيه وسألته: "وكم قناعاً لبست؟ "
فما كان منه الا أن ضحك وقال : " توقفت عن العد منذ زمن طويل "
وفجأة أدركت أنهما لا يتوجهان الى منزلها،فعدلت جلستها ،وشعرت بكل عضلة في جسدها تتصلب.
" الى أين تذهب؟ "
" فكرت في أن نتناول العشاء في مكان ما في البلدة.وقد اكتشفت مطعماً صغيراً هادئاً، يديره طباخ ممتاز فعلاً. " " لكن لدي موعداً،فأرجوك ،خذني الى المنزل. "
وراحت تكبت الرعب في صوتها ،وهي تحاول أن تبدوا باردة وبعيدة.
والتفت اليها : "موعد؟ مع رجل؟ "
" نعم، مع أن لا شأن لك بهذا. فهلا عدت أدراجك إذا سمحت ،وأوصلتني الى المنزل؟ لا أريد أن أتأخر"
تمهل في قيادته وقد أشاح بوجهه الذي بات قاسياً،غامض الملامح:
" كان لدي انطباع ان لا رجل في حياتك "
فأجابت بارتياح فظ لم تستطع أن تشرحه حتى لنفسها : "إذا...كنت مخطئاً "
" وما اسمه؟ "
ولما لم تجيب ،ادار رأسه مجدداً نحوها ،ونظر اليها بحدة وعيناه تلمعان:
" سألتك عن اسمه "
" لاشأن لك بحياتي الخاصة. "
" ليس الشاب الذي كان يضايقك في حفلة ليلة الميلاد؟ "
فردت بإجفال :
" هال؟ كلا، طبعاً! هال لا يعيش هنا بل عاد الى البلدة لقضاء الميلاد وحسب "
عندها ،تمتم بهدوء:
" جيد،وكما تعلمين ،لقد تفاجأت بما سمعته مصادفة .لم أظنك من النوع الذي يتورط مع رجل متزوج "
فردت بحدة وقد تورد خداها:
" لم يكن متزوجا حين عرفته "
علق بهدوء:
" فهمت.أتزوج بعد أن قطع علاقتك به؟ أم من منكما قطع العلاقة ؟أنت أو هو؟ "
واثار فضوله انزعاجها ،وهي التي لم تكن تريده أن يهتم بحياتها ،فما بالك بحياتها العاطفية؟
" أرجوك ،هلا توقفت عن طرح هذه الاسئلة وأوصلتني الى المنزل؟
هز كتفيه بلا مبالاة،وانعطف بالسيارة ،وتوجه الى منزلها مباشرة من غير عجلة .ولما توقف امام البيت، فكت كلير حزام الامان ،لكن يده قبضت عليها في هذه اللحظة وأمسكتها من رسغها.
" ماذا عن الرجل الذي تواعدينه الان؟ منذ متى تعرفينه ؟ هل العلاقة جدية؟ "
وردت تعلى نظراته المتسائلة ببرود:
" كيف تظن انك تملك الحق في سؤالي؟ وماذا لو كنت جدية ؟مادخلك بهذا؟"
فأصر : " أهي جدية؟ "
وكذبت : " نعم "
وإذا بها ترى عينيه تومضان ،فيما حاجباه يرتفعان فوقهما :
" لم لا تخبريني عن اسمه؟ أهو متزوج أيضاً؟ "
فأجابت بحدة: "كلا، واسمه جوني .والان هلا تركتني؟ "
ظنت لبرهة أنه لن يفعل ،فاحست بأعصابها تتشنج تحت بشرتها منذرة بالخطر .وقادت أعينهما معركة صامته، سلاحها النار التي اشتعلت بينهما.
وفاق التوتر كل احتمال ، وأحست بأنها على وشك الصراخ،لكنه أطلق أخيرا،فسارعت بالترجل من السيارة، ومضت من غير ان تلتفت وراءها.
وكان من المهم بالنسبة لها ألا تلتفت وراءها ،لئلا يعتقد أنه ترك فيها أثراً ما .ولم تكن تكذب عليه ،فهي مرتبطة بموعد مع جوني برتشارد، وسيصطحبها الى مطعم يوناني جديد فتح أبوابه في البلدة هذا الشتاء . وفيما هي تستعد ،أطلقت كلير تنهيدة ،فجوني رجل لطيف. لكنها لا تستطيع التفكير فيه كما تفكر في دنزل بلاك،رغم ان هذا الاخير لا يمت الى اللطف بصلة؟
في الواقع ،لم تشأ أن تعبره أي اهتمام .وحاولت أن تتقيد بذلك أثناء النهار،لكنه غالباً مايتسلل الى أحلامها بازعاج .وظل ذلك الحلم الغريب الذي نسجت حبائلة ليلة الميلاد يراودها مرارا وتكرارا خلال هذا الشتاء الطويل والبارد ،رغم أنها لم تفهم معناه حقيقة. وبدأت تخشى من الخلود الى النوم.
ولم تلتق دنزل بلاك لأسابيع، لكنها أحيانا تلاحظ حركة ناشطة وهي تمر "بالبحيرة السوداء" من سقالات حول السقف الى عربات مركونه في الفناء ،وكومه من مواد البناء موزعه خارج المنزل،اضافة الى رجال ،في أيديهم أكواب من الشاي ،يتأملون الطقس الذي أضحى معتدلاً هذا الاسبوع،بعدما ذاب الثلج ليترك المنطقة مغمورة بالمياه.
وخلال هذه الاسابيع ،كانت نادراً ماتجد لوسي في المنزل .فقد حتم عليها المهرجان العديد من التمارين بعد المدرسة والقليل من وقت الفراغ. لكن كلير فكرت بارتياح ،انها ،على الاقل، ستنسى دنزل بلاك. فهي لا تأتي كلى ذكره أبدا الان. وعدا عن ذلك ،لم تكن تتكلم عن أي شيء آخر ،إذ كفت عن قراءة رسائل مايك أثناء الفطور ،أو التحدث عن مشاريعها للزواج ، المقرر قرابة عيد الفصح. وحين اقترحت كلير أن تتخذا تدابير جدية،انفعلت لوسي ورفضت مناقشة الامر. حتى أن والدها لاحظ هدوء لوسي الشديد وانطوائها على نفسها، وتمتم وهو يعبس بقلق:
" إنها شاحبة أيضاً. هل تظنين أنها تعمل بجد ؟انها تمضي ساعات اضافية كثيرة كداً من أجل هذا المهرجان "
فوافقت كلير :
" لعل هذا هو مافي الامر .سأتكلم معها "
وفي صباح اليوم التالي ،وفيما هما على مائدة الفطور،رفع روبن نظره عن المجلة التي يقرأها ،وهتف بحماس:
" اسمعوا! يقال هنا ان دنزل سيصور فيلماً في انكلترا لاحقاً في هذه السنه، مما يفسر سكنه هنا! "
فسأل أبوه:
" أيتحدثون عن موضوع الفيلم "
رد روبن:
" انها رواية لفرد من عائلة برونتي ،لم أسمع بها من قبل،وتدعى "أجير القصر المميت"
هل تعرفينها يالوسي؟ "
" نعم، لقد كتبتها آن وهي الاخت الثالثة ومازالت على قيد الحياة .وتدور أحداث الرواية حول امرأة متزوجة تهرب من زوجها الثمل. "
ولم تكلف لوسي نفسها عناء اشاحة نظرها عن الرسالة التي تقرأها. فارتاحت كلير وهينرى أنها فقدت كل اهتمامها في دنزل بلاك ،وأنها استعادت القليل من اللون هذا الصباح، فيما اكتسب خداها هذا الاحمرار الصحي . ومن يدري لعله ما من داعي للقلق عليها.
وبعد عشر دقائق ،وفيما كانوا يستعدون للرحيل ،ذكرتها لوسي:
" سآخذ سيارتي الى الكاراج.فهل يمكنكك أن تتبعيني الى هناك، ثم تصحبيني الى المدرسة؟ "
-حسناً، ولكني سأوصل روبن وجايمي أولا ثم اراك في الكاراج.
وستنتهز الفرصة التي انتظرتها كي تتكلم مع لوسي .وزاد ذلك التصميم فيها حين وصلت الى الكاراج،ورأت ان الاحمرار على وجه لوسي قد اختفى ليترك مكانه للشحوب مجدداً.

لكن ما ان فتحت كلير فمها حتى تكهنت بالموضوع،وهتفت :
" انا بخير تماماُ، وليس بي من سوء.فكفي عن انتقادي"
فتفاجأت كلير برد فعلها ،ثم قالت وهي تخفف عنها :
" أنا لا انتقدك يا لوسي .ولكنني وأبي قلقان عليك.فأنت تجهدين نفسك بالعمل ،وقد ظهرت عليك عوارض المرض.تذكري ان زواجك ليس ببعيد "
التفتت لوسي اليها وهي تكاد تصرخ ، فيما احتد وجهها وارتسمت العدائية في عينيها المتألقتين.
" أنا بخير، بخير تماماً.فدعيني وشأني! "
كانت كلير من الصدمة بحيث قادت بصمت حتى بلغت المدرسة الابتدائية حيث تعلم لوسي. ومالبثت أن توقفت ،فخرجت لوسي من السيارة وصفقت الباب ومضت من غير سلام أو شكر.
مابالها بحق السماء؟ و أوشكت تكلير على الانطلاق حين تقدمت المديرة وحيتها بحرارة.
" كيف حالك ياكلير.تبدين شاحبة قليلاً، كحال لوسي مؤخراً.لكنها تعمل بجد استعداداً للمهرجان .اليس من المثير ان تتمكن من الحصول على مساعدة دنزل بلاك؟ فكرم منه أن يوفر لنا وقته ،لا سيما انه رجل مشهور!
وأحست كلير بنفسها تتخدر من الصدمة ،لكنها تصنعت اجابة مهذبة ،قبل ان تبتعد بالسيارة بتمهل.إذا ،هذا هو السبب.لا عجب أن لوسي باتت شاحبة ومتوترة الاعصاب ، فهذا مصير نسائه .وتعرفت كليرعلى عوارض مرض هيلين نفسها ،اضافة الى النجمة التي مثلت في فيلمه الاخير .كما فكرت في وجه هيلين يوم أغمي عليها في الشارع، من الشحوب وخطوط التعب الى سواد العينين والظلال حولهما. وهذا الصباح ،حين تكلم روبن عن الاشاعة التي تدور حول فيلم دنزل الجديد،كيف لم تشك في تصرفات لوسي الفظة ،ولا مبالاتها الظاهرة بعد أن كانت اسيرة سحر كل مايتعلق به؟ وتذكرت كلير ان لوسي نوردت فعلاً،رغم أنها لم ترفع رأسها .فقد لاحظت اللون على خديها ،ولكن بلغ بها الغباء حداً ظنت معه أنها أفضل حالاً.وعليها أن تلعن نفسها لأنها لم ترى الحقيقة. وبدات تجمع تدريجياً قطع الاحجية الصغيرة ،فأختها تقابل دنزل بلاك سراً في الامسيات التي تتظاهر فيها بالعمل بالمدرسة حتى ساعة متأخرة .وهي لاتشك في ان لوسي كانت تعمل لساعة أو ما يزيد ،لكنها كانت لا تلبث ان تتسلل مع دنزل بلاك.
وعضت كلير على شفتها السفلى ،وفكرت والشرر يتطاير من عينيها : "اللعنه عليه!"
لم لا يتركها وشأنها؟ فهي مازالت صغيرة ، ولا تتمتع بخبرة حقيقية في الحياة خارج هذا المكان المنعزل المسالم.
ولم تكن كلير مشغولة هذا الصباح ،فامضت جزءاً كبيراً من وقتها وهي تحدق في الفراغ، مكتئبة .ماذا عليها ان تفعل؟ لا يمكن أن تدع لوسي تحطم حياتها .فقد تفسخ خطوبتها ، وتتتحلى عن عملها ،ولكن ماذا تفعل حين يمل منها دنزل بلاك،كما توقعت كلير أن يفعل، ماذا قد يحدث للوسي حين تنتهي العلاقة ،فتواجه الواقع مجدداً،ومعه كل تلك العواقب الوخيمة لعملها؟ وفكرت كلير بمرارة:
" لن يفعل ذلك بأختي !لن اكتفي بمراقبتها وهي تدمر حياتها .علي أن أوقفها عند حدها ،لكن كيف؟ "
وعند الواحدة ،خرجت لتناول طعام الغداء.وفي طريقها الى مطعمها المفضل ،رأت دنزل يسرع الخطى على الرصيف الثاني،ومعطفه الاسود الطويل تتلاعب به الريح، فأحست بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان .سبق ان لمحته بضع مرات خلال الاسابيع الماضية من بعيد .وفي كل مرة وفي كل مرة ينتابها هذا الاحساس المقلق الذي يقارب الرعب،لكن احساساً آخر تغلغل فيها بقوة ،رغم أنها رفضت أن تواجهه، أو حتى أن تقر بوجوده.
وخفف دنزل من سرعته ثم التفت ليعبر الشارع،فما كان من كلير إلا أن تسللت الى المتجر الأقرب لتختبيء فيه.
فسألتها المرأة خلف المنضدة : " هل لي بمساعدتك؟ "
نظرت اليها كلير بارتباك وهي لاتعرف نوع البضاعة التي يبيعها المحل،واضطرت الى اجالة النظر حولها،قبل ان تجيب :
" آه، أود ثلاث حبات من البرتقال اذا سمحتِ "
ومالبثت ان تركت المتجر بحذر،وهي تختلس النظر من جانب الى آخر .لكنها لم تقع على أي اثر لدنزل بلاك.وبدلاً منه،وقعت على هيلين، وهي تبدو سمراء مشرقة.
حيتها هيلين بابتسامة: " مرحباً كلير، كيف حالك؟ "
فأجابتها بصوت أجش،وهي مازالت تحاذر من ظهور دنزل. ثم لاحظت مظهر هيلين وعلقت: "تبدين رائعة. أعدت لتوك من مايوركا؟ "
" نعم منذ يومين .لقد عدت وبول لنعيد افتتاح الفندق في موسم الربيع. "
وعلا احمرار طفيف وجهها الاسمر،ثم قالت على عجل وبقدر من الخجل:
" سنتزوج مجدداً ياكلير "
ولم تكن تلك مفاجأة بالنسبة الى كلير، فاهتمام بول بهيلين ،واصراره على ان تسافر معه الى مايوركا اوضحا للجميع أنه مازال يحبها.
" هذا رائع هيلين؟ لاعجب أنك تبدين بهذه السعادة ،بالمقارنه مع حالك قبل الميلاد ومرضك حينها .اما الان ،فأنت امرأة مختلفة! "
" مرضي هو ما جمعنا مجدداً.أتعرفين؟ ان لم تتصلي به حينها ،لما عدنا الى بعضنا مجدداً."
فاحتجت كلير :
" بل أنا متأكدة من أنكما كنتما ستجتمعان عاجلاً أم آجلاً. "
" لست ادري. فكلانا عنيد، ومتكبر جداً.وانا ادين لك ياكلير! ستأتين الى زفافنا ،اليس كذلك؟ سيكون حفلاً صغيراً، خلال شهر تقريباً.وهو عرس بسيط بلا هرج ومرج ،يضم العائلة وبعض الاصدقاء،وسيقام في الفندق. "
" أود ذلك ،واشكرك على دعوتي. "
وبعد ان اخذت كلير نفساً، اختلست كلير نظرة سريعه على طول "هاي ستريت"،لتتأكد من أن دنزل بلاك غير قريب.ثم سألت بلا مبالاة:
" بالمناسبة، اما زال دنزل بلاك زبونك؟ "
فتبدل وجه هيلين، وارتسمت عليه تقطيبة ،قبل ان تجيب:
" كلا جوني برتشارد يتولى اعماله، ألا تذكرين؟ لماذا؟ "
" لقد استأجر منا كوخاً ،بانتظار انتهاء الاعمال في "البحيرة السوداء"وكنت أتساءل اذا عدت الى تمثيلة بعدما تحسنت حالك الان؟ "
فاجابت هيلين بجفاء: " كلا "
وقررت كلير ان تجازف وتكون صادقه معها :
" هيلين ،انا قلقة على لوسي...لقد اكتشفت لتوي انها تقابله،سراً! "
فنظرت اليها هيلين بحدة واتسعت عيناها خوفاً:
" لوسي؟ و لكن، أليست مخطوبة؟ "
" نعم الى شاب لطيف جداً،يسكن في افريقيا في الوقت الحالي.وهي لم تره منذ تسعة اشهر،لذا فهي تشعر بالملل والوحدة .ومنذ ان تعرفت الى دنزل بلاك .وهي اسيرة سحره. "
فعضت هيلين على شفتيها :
" اذاً، انت محقة في قلقك عليها. فهو يثير المشاكل للنساء "
ولما ازداد احمرارها ،نظرت الى كلير بتكشيرة،واضافت :
" علي ان اعترف أنني فقد عقلي بسببه.فقد كان الحزن على بول يتملكني عندما التقيته.ولم أظن ان شعوري قد يزداد سواءاً،لكنني كنت مخطئة.وبدأت أواعد دنزل ،حتى تعلقت به لدرجة الهوس. وكان محط تفكيري كله ، فإن لم أره ،ابيت حزينه وان رايته، يسيطر علي الانفعال "
بدت كلير شاحبة ومنزعحة ،وتمتمت :
" تلك هي حال لوسي مؤخراً. كنت أظنها ترهق نفسها في العمل، اذ توقفت عن الكلام ، الا عندما تثور غضباً لتفاهات .وهي بالكاد تأكل ،وتعاني دواراً معظم الوقت ،كما انها تبدو كالاشباح "
فعبست هيلين :
" ياللمسكينه لوسي.انا آسفة لاجلها.وانا اعرف شعورها، لانني عشته .يالهي كم اشعر بالغباء ما ان تغلبت على احساسي هذا! وانا لا افهم كيف اوصلت نفسي الى تلك الحاله من اجل هذا الرجل. "
فأجابت كلير :
" اظنك كنت ،كما قلتمن قبل ، سريعة التأثر، بسبب بول "
وأومأت هيلين:
" نعم. لقد التقيت بدنزل ،وكان لطيفاً ومتفهماً "
ولما لاحظت السخرية على ملامح كلير ،توقفت عن الكلام ، ثم عادت وأضافت
" لا، كان على هذه الصوره حقاً! بدا مسانداً ومتعاطفاً جداً.أما أنا فكنت ابحث عن شيء ، اي شيء ليمنعني من التفكير في بول .لذا تعلقت بدنزل بلاك. أظنهم يسمون الحالة "تحويل" فأنت تحولين شعورك من رجل الى اخر حاول ان يساعدك على تخطي الاول "
ثم ضحكت بحدة ،وتابعت :
" لكن ذلك لايساعد ايضاً.وبطريقة ما يزيد الطين بلة، فقد توقفت عن الاكل والنوم، ولم استطيع التفكير الا فيه .ولا عجب انني اصبت بانهيار عصبي في النهاية.ولكن ،ما ان عدت الى بول ، حتى ادركت أن علاقتي بدنزل كلها هراء ليس الا.فلم أكن مرة مغرمة به،وهو بكل بساطة ،كان يتسلى معي"
وانعصر صوتها ووجهها وهي تردف:
" انه رجل معقد تماماً،يتلاعب بالناس ولا سيما النساء. "
راحت كلير تنصت بانتباه،وهي تراقبها بمزيج من الشفقة والرعب وفروغ الصبر .وأضافت هيلين باختصار:
" لوسي صغيرة في السن ولن تجيد التعامل معه ،ياكلير .قد ينزف جرحها بشدة، إت أخذت ألاعيبه على محمل الجد "
فردت كلير ببطء:
" اعرف. وهذا مايخيفني .فأنا لا اعرف كيف أوقفها .وهو لن ينصت الي,كما لن تفعل لوسي "
" الا تستطيعين اقناع مايك بالمجيء قبل الوقت المحدد وتقديم موعد الزواج؟ "
لمعت عينا كلير وأجابت :
" هذه فكرة! وانا متأكدة من أن لوسي ما زالت تحبه "
فمنحته هيلين ابتسامه :
" حسناً، امل ان ينجح ذلك،فانا أحب لوسي.والان ، آسفه علي الاسراع ،مازال أمامي الكثير من العمل اليوم سأرسل إليك دعوة للزفاف ،ما ان تجهز البطاقات .اراك قريباً ياكلير "
وفي ذلك المساء، وفيما كان الجميع الى مائدة العشاء، سألت كلير لوسي بلهجة عادية:
"متى سيعود مايك بالتحديد؟ ألا يجدر بنا الاعداد للزفاف قريباً؟ "
بدا وجه لوسي كبياض الثلج ،ثم تمتمت من غير أن ترفع رأسها :
" مايك لن يعود "
رفع الجميع رؤوسهم ،وراحوا ينظرون اليها بحدة .اما كلير فسألت وقد بدت متفاجئة وغير مصدقة:
" لن يعود؟"ٍ
" لقد عرض عليه عقد عمل لثلاث سنوات ،ويريد أن يقبله.ولا ينوي أن ينوي ان يعود مجدداً حتى تنتهي مدة العقد. "
بدا صوت لوسي مرتجفاً، عالياً وحاداً ،اما شفتاها الشاحبتان فارتعشتا وهي تتكلم.
" ولكن ماذا سيحدث بشان الزواج. هل سيؤجله، أم...؟ "
" لقد طلب مني ان اطير الى افريقيا، كي نتزوج هناك. "
وانفعلت لوسي بغضب وهي تتابع:
" لن يحضر الزفاف أي من اصدقائي .وحتى لو تمكنتم من دفع مصاريف الذهاب والاياب ، لن يكون زفافاً حقيقياً! وانا التي لطالما خططت لزواجي في كنيستنا ،مع اشبينتي وباقة أزهار فيما الة الارغن تعزف و.."
وفجأة ،ابعدت كرسيها ،ونهضت والغصة في حلقها ،ثم اكملت :
" في الواقع ،لن ارضى باحتفال سريع في مكان غريب، من دون وجود احد تقريباً.لذا ،يمكنه أن ينسى الامر! "
ولما هرولت خارج الغرفة ، اطلق روبن صفيراًعالياً،ووجهه كئيب:
" الى متى ستبقى شعاع الشمس الذي ينير المنزل؟ لم لا يستطيع مايك أن يعود ويتزوجها بكل بساطة، ثم يخبرها عن أفريقيا؟ "
وتبادلت كلير ووالدها النظرات.
" الان عرفنا لم تتصرف بغرابة مؤخراً ياكلير! "
" ألديك عنوان مايك في أفريقيا يا ابي؟ لا بد ان لديهم هاتفاً في تلك الكلية.لعلنا نقنعه بالعودة للزواج. "
" قد نستطيع ذلك فعلاً.ولكن ،حتى لو فعلنا ،اتساءل ان كانت لوسي تود العيش في افريقيا بعد ذلك."
وما ان سمعت صوت ابيها الرقيق حتى عبست وقالت:
" أفهم شعورها بالخداع لأنها لن تحصل على هذا الذي لطالما حلمت به يا أبي؟ فلطالما كانت لوسي فتاة رومانسية.ولا أظنها عنت أنها لاتريد العيش في أفريقيا ، بل تريد زفاف أحلامها أولا ً"
تمتم جورج سامر بجفاء:
" أتساءل عن ذلك .أظن أن لوسي تبدي ردة فعل ازاء اي تغيير من أي نوع . فهي لم تعش يوماً في مكان غير هذا، ولا تريد ذلك أيضاً.اخشى أنها مازالت تتصرف كالاطفال .والا ،لقبلت قراره من دون ان تنتابها نوبة الغضب هذه، هذا اذا كانت تحبه، وتحترم خياراته "
ثم هز رأسه وتنهد قبل ان يردف :
" كلا يا كلير ، لا اعتقد أنه يجب ان نتدخل.فهذا الامر يعنيهما .ومن الواضح أن مايك وجد المكان الذي يحبه ،ويريد العيش فيه ، كما وجد عملاً يرغب في ممارسته ،وعلى لوسي ان تواجه هذا الواقع.اما ان ارادتِ التحدث الى احد ، فتحدثي اليها ودعيها تفهم أن الحياة لا تعني ان ينفذ الناس مشيئتها ،ويسلموا لها دائماً. والزواج خاصة،ينص على التسوية،فيتوافق الشخصان على الامور بالتساوي.وبصراحة ،اظن أن لوسي قد نضجت بما يكفي لتفهم هذا "
فأجابت كلير بقدر من السخرية:
" ربما الخطأ خطؤنا ، لعلنا أفرطنا في تدليلها "
وعلق روبن وهو يضحك:
" لا شك في هذا. فلوسي فتاة لطيفة ، لكنها اعتادت على العيش وفق طريقتها الخاصة، ولامجال لانكار ذلك. ولطالما تساءلت كيف عساها تعتاد على الحياة الزوجيه.فكما تعلمان ، مايك ليس برجل يسهل التغلب عليه، وهو لن يسمح لها ان تسيطر عليه كما تفعل معك ومع ابي. "
ضحكت كليري امامه ،لكنها ،في سرها، ادركت ان كلامه وكلام والدها ينطوي على قدر من الحقيقة.ومع أن لوسي فتاة مدللة ، الا أن ذلك لم يمنع كلير من القلق من علاقتها من دنزل بلاك. في الواقع ،اشتد قلقها الان. فمن الواضح أن لوسي باتت أكثر حساسية في الوقت الحالي. ولا بد أن دنزل بلاك تمكن من الاقتراب منها بهذه الطريقة أما السؤال ،فإلى أي مدى لوسي متورطة معه؟ أهو يساعدها في أزمة فحسب، ام أن في المسألة أكثر من هذا؟
لاحقاً، كانت نتظف مائدة الطعام ، حين تناهت اليها خطوات لوسي في الرواق،وهي تتجه نحو الباب ، فسارعت لتعترضها. لكن لوسي نظرت اليها بتحد، وعيناها حمراوان عند حافتهما، بشكل يثير الشك.
" انا خارجة! "
" في هذه الساعة؟ انها تقارب التاسعه! "
" لست بطفلة !فكفي عن معاملتي هكذا! "
شعرت كلير برغبه في صفعها ، لكنها نجحت في التحكم بأعصابها بعد جهد.
وأضافت لوسي بسرعه وكأنها قرأت تعابيرها:
" سألتقي أحدهم من أجل مهرجان المدرسة "
فسألتها كلير بحدة :
" أهو دنزل بلاك؟ "
وسرعان مالمعت عينا لوسي بخوف،وسألتها: " ماذا؟ "
في الواقع، ارادت لوسي ان تستغل عامل الوقت لمصلحتها ، وان تتبين كم من المعلومات التي تعرفها كلير، والكم الذي معرفته ،لترى كيف يمكنها أن ترضيها.وأعلنت كلير بنبرة هادئة:
" اعرف انك تقابلينه ،وانه يساعدك في المهرجان .فقد اخبرتني مديرتك كل شيء... لم لم تذكري لي الامر؟ لم تخبريني مرة أنك ترينه مجددا ً"
فلوت لوسي فمها ،وردت :
" عرفت كيف ستكون ردة فعلك. لقد أوضحت لي أنك لا تريدين مني مقابلتته مجدداً، ولم اكن ارغب في مجادلتك في الموضوع "
عندئذ ،انبتها كلير :
" لم اظن انك ستكونين بهذه السرية،منذ متى وانت تقابلينه؟ "
فأجابت بعبوس :
" لقد صادفته في البلدة في نهاية احد الاسابيع ،واخبرته عن المهرجان، وحين قلت له انني احتاج الى بعض النصائح عن المسرح، ابدى لطفاً غامراً، وعرض مساعدته "
هتفت كلير بجفاء:
" بل صادف أنك طلبت منه المساعده. "
عندها نظرت اليها لوسي بغضب:
"حسناً، ربما كنت واضحة. لكن لم استطيع تفويت هذه الفرصة. لقد تحمس جميع من في المدرسه، وأظن أن دنزل يستمتع بوقته أيضاً. فهو مهتم فعلاً،وقد اقترح العديد من الافكار الجيدة .كما يتعامل مع العمل باحتراف ،وليس كمجرد مجهو د مدرسي يقوم به بضعة هواه..."
قاطعتها كلير وهي تقطب جبينها :
" أشك في أن شخص مثله سيهتم بما يظنه عمل هواة .فهو محترف مهم، ولم يكن يحق لك ان تطلبي منه ذلك..."
فردت لوسي بحدة:
" كان باستطاعته ، ان يتذرع بعمله ،لكنه لم يفعل .واظن انه يستمتع بوقته.واعرف أن الاطفال يعشقونه "
ثم حدقت في كلير وأكملت :
" وانا كذلك! اليس هذا ماتودين معرفته؟ أنت تشكين في أنني مغرمه به،هذا واضح تماماً.ماذا يجري؟ هذا هو السؤال الذي تتحرقين الى طرحه ،فأنا أعرفك جيداً.انه لايحاول إغوائي ،بل هو في غاية اللطف والود، ويراعي مشاعري "
فأجابت كلير وقد استحالت عيناها داكنتين غضباً :
" يمكنني تصور ذلك "
" بل لايمكنك ! فأنت تفتقرين الى أي مخيلة .ولا تملكين الا سوء التفكير .في الواقع ، كنت بحاجة الى انسان أحادثه ،فأخبرته مشاكلي ،وأنصت الي. وكان هذا كل ماحتاجه..إنسان يستمع الى شكواي ،ويهتم بي ،وياخذني على محمل الجد "
فهتفت كلير بغضب:
" ما كان ينبغي أن تتحدثي إليه، بل الى مايك! "
" مانفع التحدث الى مايك وقد اتخذ قراراً بشأن حياته، ولم يكلف نفسه عناء سؤالي عن الحياة التي أريد؟ اتضح لي أن ما من صفة مشتركة بيننا بعد الان. "
أصيبت كلير بالرعب، وما كان منها الا أن رمقتها بنظرة غريبة، فالوضع أشد سوءا مما كانت تظن.
" لوسي ،أنت تحبين مايك،فأنت مخطوبة اليه منذ اشهر. على الاقل ، تكلمي معه في الموضوع. لايمكنك الاكتفاء بالرحيل .ألا يستحق منك هذا ؟ كيف له ان يدرك شعورك إن لم تخبريه به؟ "
" استطاع دنزل أن يتفهمني ،فلم لا يتمكن مايك من ذلك؟ "
" لا يسدي اليك دنزل أي معروف ، بتشجيعك على التحدث اليه عوضاً عن الرجل الذي يفترض أنك ستتزوجينه. لوسي، انه يسبب لك المشاكل ،فتوقفي عن مقابلته بكثرة.ستصبحين مثل هيلين قبل ان تنهار بسبب فقر الدم. "
ضحكت لوسي بغضب وقالت:
" ولكنني مصابة بفقر الدم ! ولا تدخلي هيلين في الموضوع! فدنزل لم يتسبب بمرضها، بل لطالما كانت هي عصبية "
" هذا ليس صحيحاً.كانت هيلين دائماً مليئة بالسعادة والحيوية حتى التقت بدنزل بلاك. "
فترددت لوسي قبل ان تقول بنزق:
" علي اي حال، ما علاقة كل هذا بي؟ لقد عادت الى بول الان،وبدت لي بحال جيدة في المرة الاخيرة التي رأيتها فيها "
تنهدت كلير ،وهي عاجزة عن إنكار أن هيلين تغلبت الان على دنزل .لكنها لم تشأ الاستسلام.
" لوسي، لم لا تتصلين بمايك، وتتحدثين اليه صراحة ؟ سأدفع ثمن المكالمة .فاتصلي به الان، هذه الليلة. "
بدت بشرة لوسي شاحبة للغاية ،وارتعشت شفتاها وهي تقول:
" لا، لا أريد التحدث اليه .لقد انتهي مابيننا .وسأرسل له خاتمه .اسمعي ، علي الذهاب .قلت لدنزل إنني سأصل عند التاسعه،وقد تأخرت "
سألتها كلير وقد عيل صبرها :
" لم ألح عليك لرؤيتك الليلة بشأن المهرجان؟ "
فنظرت اليها لوسي بعيني لامعتين جامحتين، واجابت :
" حسناً لا يتعلق لقاؤنا بالمهرجان. بل أريد رؤيته وحسب "
واذا بيد جليدية تعصر قلب كلير، فرجتها وهي تحاول أن تمسكها :
" لوسي ،لاتذهبي. انه خطر عليك، الا تفهمين ذلك؟ أنظري الى نفسك بحق السماء، تبدين رهيبة! "
فدفعتها لوسي عنها بقوة :
" ليس هذا رأي دنزل!انه يقول إن وجهي ملائم للتصوير . واسمعي هذا! يريد أن يخضعني لتجربة فيلم، وسيضمني الى فريق فيلمه الجديد! "
قانون كلير

في تلك الليلة تقلبت كلير في فراشها .فكيف يمكنها النوم،وأختها توشك ان تدمر حياتها بنفسها؟
وحين اخبرتها لوسي عن تجربة الفيلم، ودورها في فيلم دنزل بلاك الجديد، ارتكبت كلير خطأ الصراخ بغضب:
" أنت لا تعتقدين أنه جاد في قول؟ "
" يقول لي العديد من الناس انه يجدر بي التمثيل؟ "
ثم اشاحت عنها بغضب مماثل ، وأخذت تتأمل انعكاسها في المرآة الجدارية بتمعن طويل .فما كان من كلير الا ان ضحكت من غرور أختها السخيف ثم عمدت الى مضايقتها:
"أنت تقصدين العديد من الرجال الذين يرغبون في مواعدتك أليس كذلك؟ "
وبالطبع،تلقت نظرة غاضبة من لوسي التي دمدمت بحدة:
" لكن دنزل يعني مايقول .وهو لا يتبجج! سأخضع لتجربة الفيلم يوم السبت ،فتقبلي هذا الواقع! "
سكتت كلير،وقد علت الصدمة وجهها ، مما دفع لوسي الى رسم ابتسامة ظافرة صغيرة على محياها،وقد اسعدتها ردة فعل أختها .واخيراً،أضافت بعنف:
" ولا تظني أن بإمكانك ردعي.فهذه حياتي ،وليست حياتك .لم أعد طفلة بعد الان ،لذا توقفي عن التدخل "
لكن كيف باستطاعة كلير أن تفعل هذا؟ فمنذ وفاة والدتهما ،وكلير مسؤولة عن لوسي والصبيين. اما جورج سامر ،فكان والداً عطوفاً، لكنه تقليدي في تفكيره، وقد نسأ مؤمنا أنه من واجب المرِأه أن تربي الاولاد وتدبر شؤون المنزل .لذا ، عندما ماتت زوجته ، ترك هذا الدور لابنته الكبرى من غير ان يعيد التفكير في ذلك. وهي نفسها لم تحاول أن تتملص مما اعتبرته واجبها.وكان بقية الاولاد في ذلك الوقت بحاجة الى حنان الام ورقابتها ورعايتها .ولم تكن المهمة سهلة على كلير ،الا انها بذلت مابوسعها. ولو كانت حرة لتتصرف على هواها ،فتخرج كل ليلة ،وتعيش لنفسها وتستمتع بوقتها ،لاصبحت حياتها مختلفة تماماً. ومع مرور السنوات .بدأت العلاقات التي تبنيها تذبل ثم تموت ،لاسيما مع افتقارها لوقت الفراغ. فقد توقع منها الرجال أن توفر ولو قليلاً من الوقت لهم.ولم يشاؤوا ان يصطفوا من أجل الحصول على قدر من اهتمامها، ولا يرغبون في منافسة صبي يعاني من الحصبة، او والد مصاب بالانفلونزا ويحتاج الى رعاية دائمة .وهكذا ،استسلم اشد الرجال صبراً، ورحلوا عن حياتها.
أما من ناحيتها ،فلم تكن جدية بشأن اي منهم ،باستثناء هال طبعاً.وحين تستعيد ذكرى هذه العلاقة، تدرك أنها لم تعره كل اهتمامها يوماً.لذا ربما لم يكن مخطئاً كلياً في ما أقدم عليه، فهي كانت من الانغماس في رعاية عائلتها بحيث لم تشأ أن تقع في الحب.وربما باتت هذه عادة ،ولعل لوسي محقة ،فهي فعلاً تحاول إدارة حياتها عنها. ولكن حين تراها متوجهة نحو الخطر مباشرة ،كيف يسعها أن تكتفي بالتفرج ،وتدعها تمضي نحو مصيرها؟
وبعدما امضت ليلة قلقة ،نهضت من فراشها ،شاحبة الوجه،ولا شهية لها للافطار .وحين القت نظرة على نفسها في المرآة ،تعرفت بحزن الى عوارض ضحايا دنزل بلاك، وقد بدأت تبدو على محياها. وسرعان ماسرت فيها قشعريره. فما الذي دفعها الى هذا التفكير بحق السماء؟ لن يحدث لها هذا أبداً! لاسيما انها تعرفه تماماً، فرجل كدنزل بلاك لا يقوم بألاعيبه في وضح النهار ،بل يتخذ ضياء القمر والموسيقى الرومانسية حليفين له، ويستهدف دائماً نساء كهيلين ولوسي، أي نساء حزينات ،وحيدات ،يتقن الى القليل من الرومانسية. لكنه، لن ينجح في مبتغاه ، على الاقل ، ليس مع لوسي .وقررت كلير بعزم ان تنقذ اختها، حتى ولو لم تشأ
لوسي ذلك .قد تكون المرة الاخيرة ، ولكن كلير لن تتنحى جانباً، وتشاهد أختها وهي تدمر حياتها ،لاسيما حين يكون باستطاعتها أن تضع حداً لما يجري .
وباشرت أولى خطواتها في الصباح حيث اتصلت بمايك في دار المعلمين وبدت في صوته نبرة كئيبة:
" اتتصلين بي لتخبريني أن لوسي التقت بشخص اخر؟ "
فتفاجأت كلير: " ما الذي يجعلك تعتقد .."

ولكنه قاطعها :
" لست غبياً واستطيع أن اقرأ مابين سطور رسائلها. فقد تغيرت في الاشهر القليلة الماضية "
" مايك انها غاضبة منك كثيراً، وما من شخص اخر في حياتها .كانت تتحرق شوقاً الى يوم زفافها منذ مدة طويلة ، ولعلك أنت لا تدرك كم تهتم المرأه بهذه المسائل.
كانت تتكلم في سرعة ،وتختصر في شرحها ،وهي تحاول أن تقنعه بوجهة نظر لوسي .وحين توقفت ،قال مايك وقد فرغ صبره:
" لكني اذا عدت الى المنزل لاسابيع قليلة بهدف الزواج وقضاء شهر العسل ،فسيكلفني ذلك مالاً كثيراً. ظننت أنه من الافضل أن نتخلى عن حفل زفاف مكلف ،اضافة الى رحلتي الى الوطن ،وبدلا ً من ذلك ،نستخدم هذا المال لشراء معدات لمنزلنا الجديد هنا .بدا لي هذا منطقياً أكثر.
فخففت عنه كلير بلطف :
" أنت محق طبعاً..لكن ،يا مايك... لوسي فتاة رومانسية ،وقلبها يحلم بزفاف أبيض، مع عائلتها وكل أصدقائها،في الكنيسة التي عرفتها طيلة حياتها.وتلك هي طريقتها في بداية حياتها معك.هكذا يعمل ذهنها ،يا مايك ، وهي تهتم كثيراً بالعائلة والتقاليد.وحتى في صغرها ،كانت تحب ان تُروي لها القصص قبل النوم بالطريقة نفسها كل مرة .وهي تكره التغيير الذي يطرأ على روتينها ،وتملك عقلاً تقليديا ًجداً "
ثم توقفت قليلاً، وأردفت بنعومه :
" أليس هذا ما أحببته فيها؟ "
صمت مايك قليلاً، ثم سألها باختصار:
" أتظنين أنه علي أن استسلم لرغباتها ،فأوافق على عرس ابيض كبير في الوطن؟ "
" أنا متأكده من ان لوسي تحبك يامايك ،وان الحزن سيتملكها إن خسرتك .اسمع لدي فكرة ،مارأيك في ان تسافر لوسي اليك في الحال ،فتشاهد بنفسها اين ستعيشان معاً، وبما أن مدرستها تقفل ابوابها لعطلة قصيرة من ابتداءً من يوم الجمعه ،يمكنها أن تقضي معك اسبوعاً.
أجفل مايك وقال:
" سيكون هذا رائعاً ، لكن ...تعرفين أن بطاقة السفر غالية الثمن ،وأنني لا أملك مالاً كثيرا ً"
" سأدفع ثمنها،فتكون جزءاً من هديتي لزواجكما .لكنني اريد التأكد من انك ستلاقيها في المطار وتعتني بها. "
" طبعاً سأفعل ذلك! لاتقلقي! "
ولما شرع الحماس يتغلغل في صوته، ابتسمت كلير.
" أيمكنك ان تحجز لها في فندق بالقرب منك؟ "
" قرب دار المعلمين فندق يقيم فيه أهالي الطلاب حين يزورون أبناءهم . "
ثم سكن قليلاً، قبل ان يتابع بريب:
" كلير ،هل كلمتها بشأن هذه الفكرة ؟ أعني ،هل تريد أن تأتي ؟ بامكاني ان أتصل بها،و... "
" لا ،لا تتصل بها يا مايك، فقد أرادت أن أكلمك أولاً، وأتأكد من أمكانية تحقق الفكرة .لكنني على يقين من أن لوسي ستسعد كثيراً.ولن افاتحها في الموضوع قبل أن أتمكن من حجز بطاقة أفاجئها بها في الاسبوع. دع الامر لي. سأتصل بك مجدداً صباح الجمعه، لأعلمك بالتدابير التي تمكنت من تحضيرها. "
بدا من السهل على كلير أن تؤمن بطاقة سفر للوسي، لكن كان عليها القيام بتدابير أخرى قبل أن تفتح الموضوع مع أختها.
وفي وقت لاحق من ذاك العصر، قادت سيارتها الى البلدة المجاورة ،وأمضت بعض الوقت في متاجر مختلفة. ومع أنه صعب عليها الحصول على ماتبحث عنه ،الا انها تمكنت في النهاية من تأمين كل شيء.ثم تركت مساعدتها الجديدة في المكتب ،وعادت الى المنزل في وقت كانت متأكدة من أنه خال.فأبوها يمارس رياضة الغولف مع اصدقائه، والباقين لن يعودوا الى المنزل طبعاً قبل انتهاء دوام المدرسة . وكان ذهن كلير عملياً جداً. وقد تلقت مختلف أنواع المعلومات المفيدة من أبيها وأخوتها على مر السنين .فقضت ساعات في مشغل جورج سامر، المزود بمختلف المعدات ،ثم نقلت ماحضرته الى سيارتها، قبل وصول والدها ولوسي بقليل.
" لقد عدت الى المنزل باكراً. "
فابتسمت كلير لأبيها، وقالت :
" قررت التوقف عن العمل عند العصر ،لاسترخي قليلاً.لكنني أعددت الطعام .ففي الفرن طبق ، سأضيف اليه البطاطس.وسأعد لك كوباًُ من الشاي ،قبل ان تستحم "
جلس ابوها بسعادة ،وراح يخلع حذاءه المغطى بالوحل ،فيما هو يتحدث عن الغولف،بسحر المدمن الذي لا يدرك ان لا يستمع الى كلامه. أما كلير ،فكانت تنصت اليه تارة ،وتفكر في مخططاتها لهذا المساءفوراً. وقد ولدت الاثارة فيها اضطراباً عكر صفو معدتها ،حتى بلغ اعصابها،وباتت تجد صعوبة في التركيز على أي عمل آخر. وأخيراً،صعد جورج سامر الى الاعلى ، وفي يده فنجان الشاي .فسألت كلير لوسي بصوت جاهدت ليبدوا عادياً:
" ماذا تفعلين الليلة؟ أستخرجين مع دنزل بلاك مجدداً؟ "
" كلا ،لقد قال دنزل إن لديه الكثير من الاعمال المكتبيه الليلة. كما انه سيأوي الى الفراش باكراً لذا ،طلب مني أن أقضي مساءاً هادئاً بدوري فأسترخي ، وأنام جيداً بانتظار تجربة الغد. "
ثم تمتمت على عجل وهي شاحبة الوجه:
"يسهل عليه قول هذا.لكنني من الهلع ،بحيث لا أقوى على الاسترخاء .أما عن النوم ،فأنا متأكده من أنه لن يغمض لي جفن الليلة "
وراحت كلير تراقبها وهي تطوف في المطبخ وكأنها تبحث عن شيء ما، فتغير مكان بعض الاواني ،ثم تنظر من النافذه الى أزهار النرجس التي أزهرت في الحديقة.
" لم لا تذهبين الى السينما؟ لقد طلب مني جايمي أن آخذه الى هناك الليلة ،ولكن لا أشعر برغبة في ذلك. "
فأحست لوسي بالاغراء، لكنها بدت مترددة .
" قال دنزل إنه يجدر بي ان ارتاح... "
" لكن الذهاب الى السينما مريح. فكل ماستفعلينه هو الجلوس في الظلام ومشاهدة فيلم.
" لكن دنزل قد يتصل بي بهدف الاطمئنان علي. "
فأجابت كلير بجفاء:
" سأخبره حينها أنك ترتاحين "
عندئذ ،ضحكت لوسي وقالت:
" لقد اقنعتني! "
ولما كان أبوها وروبن مرتبطين مواعيد هذه الليلة ،وجدت كلير نفسها وحيدة في المنزل عند السابعه والنصف. وما أن حانت الساعه الثامنه الا ربعاً ،حتى انطلقت في طريقها الى كوخها.
وحين ركنت سيارتها في الخارج، رأت وجه دنزل يطل من النافذه العليا.كان الليل قد خيم ،فيما نور شحيح ينير غرفته، راسماً هالة حول رأسه .رأت عينيه تحدقان فيها،وفمه يلتوي بابتسامه مزعجه ،فأحست برعشة تسري فيها.
كان يرتدي قميصاً حريرياً أسود غير مزرر بإحكام ،أم تراه ثوب نومه؟ فتح النافذه ليتكلم معها ،فنفخت الريح في قميصه، حتى لمحت تحت الرداء الناعم تفاصيل جسده المشدود. واذا بحلقها يجف، فتبتلع ريقها بعصبية. حتى من تلك المسافة ،شعرت بذبذبات تتغلغل في جسدها ،فسرى دمها في أعضائها بسرعه ،وتدفقت موجات الخوف فيها في مد وجزر متواليين. وما كان منها الا ان اقنعت نفسها بأنه الخوف على أختها ليس الا. وهي لا تخشاه أبداً،وتستطيع التعامل معه .ثم ،انها لا تخشى على نفسها أبداً. سألها:
" هل تريدينني؟ "
ميزت بوضوح السخرية التي تنطوي عليها كلماته ،وشعرت ببشرتها تحترق.واخيراً .قالت ،وهي تختار كلماتها بعناية: " أريد التكلم معك "
فأعلن ،وذلك البريق الساحر لا يفارق عينيه الداكنتين:
" كنت أتساءل متى سأسمع صوتك .وأيقنت أنني سأراك ما أن تكتشفين أنني اقترحت على لوسي أن تخضع لتجربة تلفزيونيه. "
لكن كلير لم تجب ،فقد جعل التوتر أسنانها تصطك حتى آلما فكها. أنه لاذع حقاً، وهذا ما يضايقها .ان امكنه أن يتكهن بردة فعلها ،فهل بمقدوره ان يعرف الى اي مدى ستصل لكي تحبط مخططاته بشأن لوسي؟ قالت وهي تتصنع البرودة:
" هل تعتقد أن بإمكانك النزول ؟ فأنا لا أريد أن اصرخ لابلغك كلامي "
" يا للأسف، كنت افكر في رومانسية هذا المشهد .انه مشهد الشرفه في مسرحية روميو وجولييت، مع انقلاب الادوار،اذ يحتل روميو الشرفه ،فيما تقف جولييت تحت نافذته. "
فردت كلير بحدة :
" هلا تفضلت ونزلت؟ "
ضحك وقال:
" لقد لاحظت قبلاً انك لا تملكين حس الدعابة .حسناً،كنت أقرأ في السرير، وأنا أرتدي البيجاما، فأمهيليني كي أبدل ملابسي قبل ان أنزل، وان كنت مازلت تملكني المفتاح تفضلي بالدخول "
وأغلق النافذة قبل ان تبدأ كلير بالرد :
" بدل ملابسك "
وماتت الكلمات على شفتيها .كان عليها أن تستجمع أنفاسها استعداداً لنتفيذ خطتها .ففي هذه الليله عليها ان تصفي ذهنا ، والاتدعه يفلت من يدها ، والا فعلى الدنيا السلام.
وفيما كانت تدخل الى الكوخ نزل دنزل السلالم. بدا رائعاً في ردائه الاسود المنسوج من الساتان. وشعرت كلير بأنفاسها تنحبس في حنجرتها .
كانت عيناه الرماديتان تتفرسان فيها من رأسها الى أخمص قدميها، حتى أحست وكأنهما تركتا بصمات على بشرتها.ومالبث أن سألها:
" أتريدين شراباً؟ "
كانت ترتدي كنزة زرقاء شاحبة من الانقره، ويحيط بعنقها عقد من اللآليء، فيما تنورتها الرمادية تماثل السترة التي تلبسها لوناُ.ولم تكلف نفسها عناء تزريرها، فالجو في الربيع دافيء، وهي غالباً ماتتجول في سيارتها.وهكذا ، كانت ملابسها دائماً كلاسيكيه وبسيطة وانكليزيه الطابع. ورغم ذلك حست أن نظراته جردتها من ملابسها تقريباً، فارتعشت امتعاضاً.
ثم تذمرت وهي ترجو أن يقرأ العدائية في عينيها :
" لا ،شكراً "
لكن، ولو فعل، لم يقدم الا على الضحك .ومالبث ان ابتسم لها ابتسامه ساخره.
" أما أنا ،فبحاجة الى شراب .يبدو أنك أتيت لاثارة المشاكل،وبما انك صعبة المراس ،ساحتاج الى شراب قوي كي أقاومك! "
وسار نحوها متوجهاً الى المطبخ، فسارعت تستند الى الجدار، لتتنحى عن طريقه. غير انه توقف فجأة ،وأسدل نظراته عليها ،ولهيب نار في عينيه، دفع كلير الى الابتعاد بإجفال أكثر.
عض على شفته وقال لها:
" لاتفعلي هذا! "
فسألته بدفاع وهي ترى فمه يلتوي:
" ماذا؟ "
" أنت تتقلصين في كل مرة أقترب فيها منك.ماذا الذي تخشينه مني؟ "
وازداد دنواً منها، حتى كاد يلامسها، وشعرت كلير بالدم ينبض في عنقها.لكنه رفعت رأسها ،ونظرت عيناها الزرقاوان اليه بتحد،ثم ردت بحدة:
" ربما مما تفعله الآن! تجرأ على لمسي بإصبع واحد وسوف..."
ابتسم بكسل ،ثم رفع سبابته ولا مس عنقها، حيث يخفق نبضها.وأخيراً همس:
" وسوف ماذا؟ "
ابتلعت كلير ريقها ،وقد انحبست أنفاسها ، وشغلتها المقاومة عن اي محاولة للكلام .فمرر إصبعه بتمهل على طول عنقها، وكأنه يتبع شريانها ، مما دفع الدم الى التدفق بسرعة أكبر وحرارة أشد. وأخيراً تمكنت من القول:
" توقف! "
عندها وثب اصبعه الى خدها،وداعب حناياه المرتعشه.
وتمتم بنعومه :
" أتعلمين ؟ ثغرك يفضح أسراراً.ومع أن هاتين العينين الزرقاوين فيهما من البرودة ما يقول "إرفع يدك عني!"، الا ان هذا الفم هو إغراء صرف، وينبئ بأسرار مختلفة تماماً "
جمعت كلير غضبها ،عساها تخفي اضطراباً وهتفت :
" انه يقول أنك ان لم تتوقف عن لمسي ،فأقسم أنني سأضربك بالآله الحادة الاقرب "
ثم دعمت كلامها بدفعه عنها بيديها الاثنتين. لكن ملامسته كانت خطأ،بل خطأ فادحاً. فالامر أشبه بمحاولة دفع جدار حجري متين. ولانها ما أن لا مست رداء الساتان الاسود بكفيها ،حتى تقدم نحوها ،الى ان اوقع يديها في الشرك ،وباتت وكانها سجينته.
حاولت ان تحرر نفسها وقد انحبست أنفاسها ،وهي تحت وقع نظراته القاتله من تحت أهداب تكاد تكون منسدلة .وتعمد ان يميل اليها .ويداه تمتدان كل الى ناحية من ناحيتي رأسها ،زمجرت :
"ابتعد عني! ان كنت تظن أن بامكانك ان تمارس معي الألاعيب التي تمارسها عادة مع النساء،فأنت مخطيء! "
لكنه تمتم :
" هذه ليست بلعبة، يا كلير. بل انها الحرب، وانت سجينتي "
وما لبث ان دنا منها أكثر أكثر، فيما صوته يقارب الهمس:
" يا للمسكينه كلير... انها سجينه عاجزة "
ومع انه كان يبتسم ، الا ان عينيه بدتا عميقتين ، داكنتين ،حتى عجزت عن التخلص من وطأة سيطرتهما. وكان بها توق مخيف الى اغماض عينيها. فلنظراته تأثير التنويم المغنطيسي ، ومبادلته النظرات تشل ذهنها ،حتى امسى التفكير عملية عسيرة .واستبد بها وهن شديد ،وودت لو تكف عن مقاومته، وعن مقاومة هذا الشعور الذي ولد فيها.في هذا الوقت، كانت حدقتاه المظلمتان تسبران أغوارها ،فنظرت اليهما وارتجفت.
وراح عقلها يصارع جسدها ،فيذكرها ببرودة أن هذا هو مايقترفه ذلك الرجل في حق النساء !فكيف لم تتعرف الى هذا الاحساس الذي يجتاحها ،الوهن ،الحمى ،الحاجة...كيف لم تكتشف كل هذا ؟ فهيلين أخبرتها بنفسها كيف باتت مهووسة بهذا الرجل .بل قالت لها انه يثير المشاكل للنساء، وكانت محقة .ولم تدرك كلير الا في هذه اللحظة الخطر الذي يمكن ان يشكله ،فاخذ قلبها يخفق بشدة بين أضلعها. ما كانت لتقوى أبداً على منعه من معانقتها .لكن ما أن دنا منها أكثر حتى رن جرس الهاتف ،فتصلب دنزل ،ثم رفع رأسه ليطرق السمع:
" اللعنة.مواعيد بعض الناس عجيبه.كان علي أن أشغل المجيب الالي. "
وتابع الهاتف رنينه .لا يعرف رحمة,فما كان منه الا ان ابتعد بتنهد:
" أخشى أنه علي الاجابة،فأنا أتوقع اتصالاً مهماً"
ثم نظر اليها من تحت أهدابه ،مبتسماً وقال:
" لاتذهبي "
وفيما توجه الى غرفة الجلوس ،استندت كلير الى الحائط وقد جف حلقها ،وهي بالكاد تقوى على الوقوف ،بينما أوصالها ترتعد.
ولما توقف الرنين ،سمعت بوضوح ،وقد تجلى في صوته الجفاء وفروغ الصبر:
" نعم؟ نعم، أهلاً جو.إذا، هل باشروا به؟ "
ثم سكت ،قبل ان يضيف بسخرية:
م أتوقع ذلك... إذاً مالخطوة التالية؟ "
خطت كلير الخطوات التالية بتصلب ،لكن رجليها كانتا من الضعف، بحيث اضطرت الى الجلوس على درجة السلم الاول.واخذت تستمع بشحوب الى الحدة المتسلطة في صوت دنزل في غرفة الجلوس.وعرفت أنه من السهل أن يتعامل مع موظفيه.لكن ،على أي حال، ليس من السهل علي أي كان أن يتعامل معه بمنطق. وبعد برهة اعاد دنزل السماعة الى مكانها،وعاد اليها.في ذلك الوقت كانت قد استعادت رشدها تقريباً، وتمكنت من مواجهته من غير ان تبدي الكثير من الانفعال.
" هل اخبرت لوسي أنها ستكون النجمه الجديدة لفيلمك أو ماشابه؟ "
فرمقها بجفاء وقال:
" بالكاد قلت هذا فلست متأكدً من أنها تستطيع التمثيل حتى "
" اذاً لماذا تخضعها لتجربة فيلم؟ "
" أنها تتحرق شوقاً للعمل في فيلم ،والكاميرا تحبها.لقد التقطت بضع صور لها،وأستطيع أن اجزم أنها ستبدو جميلة في الفيلم أيضاً. ويصادف أن فيلمي الجديد سيصور بالقرب من هنا..."
"أتعني فيلم برونتي؟ "
ابتسم لها ابتسامه محتالة وسألها:
" أهي الاشاعات المحيلة ثانية؟ نعم، اعني فيلم برونتي. ساحتاج الى العديد من الممثلين الثانويين.وسيضم الفيلم أدواراً صامته صغيرة. "
كانت كلير ترتجف غضباً وهي تجيبه:
" أهذا ما تخططه للوسي؟ أهذا ما سترمي بزواجها من أجله؟ ألتحظى بدور صغير صامت في فيلمك الجديد ان حالفها الحظ، والا مثلت دوراًثانوياً مع حشد من الناس لبضعة أيام؟ "
" متى ستتوقفين عن لومي لكل مايصيب غيري؟ لا دخل لمشاكل لوسي مع خطيبها بي، تماماً كما لاشأن لي بمرض هيلين. "
وبعد أن امتلئت عينا كلير بالكراهية ،رأته يقطب جبينه .ومالبث أن قالت له باحتقار:
" لن أضيع وقتي سدى في مجادلتك .لكنني لن أدعك تدمر حياة اختي "
وفي هذه اللحظة، عرفت لماذا جاءت،فوقفت وأعلنت :
" لقد جئت لأجمع بعض الاغراض من الخزانه المقفلة في حجرة النوم الصغيرة .لن يستغرق مني ذلك مني وقتاً طويلاً، وبعدها ،سأمضي في طريقي "
ثم صعدت السلالم ،وتركته خلفها يحدق فيها. وما ان وصلت الى الغرفة الصغيرة،حتى فتحت الخزانه،وهي قطعه الاثاث الوحيد في الغرفة، وتحتوي على أغلب الوثائق المتعلقة بالمنزل. وبعد أن أخرجتها ، خرجت من الغرفة على أطراف اصابعها ،وأطرقت السمع .وتمكنت من سماع دنزل وهو ينتقل بالمطبخ، فانتقلت بهدوء الى الغرفة التي يستخدمها ،واستعدت. وبعد عدة دقائق ، انسلت منها مجدداً.وعادت الى الغرفة الصغيرة،حيث راحت تتصفح الوثائق.
وبعد وقت قصيير ، تناهت اليها خطوات دنزل وهو يصعد السلالم، ثم ظهر عند الباب المفتوح، ووقف فيه يراقبها.
أما كلير، فالتفتت اليه، وأعلنت :
" أوشكت على الانتهاء منها "
فقال، وهو يضع كوباً على الخزانه:
" أحضرت لك عصير التفاح "
عبست كلير وهي ترى محتويات الكوب لا لون لها:
" أنا آسفة،لكنني لاأريد هذا النوع . ألديك عصير برتقال؟ "
" طبعاً، ماذا تريدين أيضاً؟ "
" لا شيء، يكفيني عصير البرتقال. "
هز كتفيه، ثم وضع كوبه جانباً ،ونزل الى المطبخ.وهنا فتحت كلير حقيبتها ،وأخذت منها قرصين صغيرين .وما أن سمعت دنزل يعود حتى أخفتهما في راحة يدها،واستعدت وهي تسمع الخطى تتسارع على السلالم.
ولما قدم إليها كوب العصير ،تناولته قائلة: " شكراً "
ارتشفت قليلاً.فيما التفت دنزل ليمسك بكوبه.
وما كان من كلير الا ان دست القرصين في كوبها ،وهي نتظر الى ظهره بحذر ،ثم ذوبت المزيج بسرعه. وأخيراً،أدنت الكوب من شفتيها ، وهي تترقب التفات دنزل .فلما فعل ،عبست بوضوح، وأنزلت الكوب مجدداً وهي تتفرس فيه.
" ماذا وضعت فيه؟ "
قطب حاجبيه ورد:
" لم اضع فيه شيئا ً"
" ولكن طعمه غريب. "
" ماذا تعنين بغريب؟ "
رفعت اليه الكوب وأجابت: " تذوقه بنفسك "
فأمسك الكوب والغضب في عينيه ،ثم رفعه الى فمه ، وشرب القليل من العصير.
" ليس فيه شيء.طعمه لاذع قليلاً،ولكن تلك حال عصير البرتقال احياناً. "
ورغبة منها في التأكد من أنه شرب مافيه الكفايه ،سألته ببرودة :
" هل شربت منه فعلاً، أم أنك ارتشفت قدراً يسيراً وحسب؟ "
فسدد اليها نظرة رصينة تفتقر الى الابتسام، ثم ابتلع جرعة كبيرة من الشراب، وقال بحدة:
"أترين؟ انه لا يشكو من سوء .لكن لا داعي لشربه اذا لم يرضيك "
ووضع الكوب على الخزانه محدثاً صوتاً عالياً اجفل كلير، فتمتمت في نفسها أن أعصابها متوترة بما يكفي.
" لا داعي لأن تفقد أعصابك !اعتقدت أن طعمه غريب، هذا كل مافي الامر. "
تضاعف الغضب في عينيه، واتخذ فمه شكلاً بارداُ مستقيماً وهو يقول:
" ماذا تظنين أنني فعلت بعصيرك؟ هل اعتقدت أنني وضعت فيه مخدراً ؟ ومن ثم ماذا ؟ أعتدي عليك؟ أهذا ما كنت تفكرين فيه؟ "
أغلقت الخزانه ويداها ترتجفان قليلاً، وحاولت ألا تنظر اليه، ثم ما لبثن ان تذمرت :
"اسمع ،أنا آسفة.ايرضيك هذا؟ "
فهتف بحدة:
" كلا، لا يرضيني .فلم أحتج يوماً الى تخدير النساء. "
عندئذ، فقدت كلير أعصابها بدورها:
"آه ، ألم تفعل؟ حسناً ،ستحتاج الى صرعي بحجر قرميد "
فرد عليها :
" لو كان معي حجر قرميد الآن ،لا ستعملته .ولكن صدقيني ، ليس بهدف إغوائك! فلا يبلغ بي التوق البائس الى النساء هذا الحد! "
أحست بوجهها يحترق .وما كان منها إلا أن استدارت على عقبيها، وخرجت بغضب من الغرفة، وهي تكاد تفقد توازنها. فتبعها عن قرب وكاد يصطدم بها عندما وقفت قرب غرفة نومه. وهنا تذكرت أنها على وشك القضاء على خطتها بانفعالها هذا.
فاستجمعت انفاسها،وحاولت ان تبدو أكثر وداً.وتمتمت وهي تجول نظرها في الغرفة التي تزينها المصابيح الهادئة :
" أرى انك أضفت جواً مريحاً على الغرفة "
بالكاد لاحظت التغيير عندما دخلت الحجرة في المرة الاولى،فهي لم تكن تملك الوقت الكافي لتتأمل الجو عن كثب. أما الان وقد فعلت ،فقد أدركت أنها لا تمت الى الغرفة التي تذكرها بصلة.
كان سقف الغرفة مطلياً بالابيض ،والاثاث في الغرفة قليل قليل. أما الان ،فاكتسى ظلاً دافئاً مشمشياً، وزينت النوافذ ستائر جديدة أكثر عمقاً. كما أضاف عدداً من المصابيح، ومكتباً وضعه قرب النافذة، ومقعداً من الجلد ، وبقربه طاولة وخزانه كتب.وحفلت الجدران برسومات ولوحات مائية مخطوطات وصور.
تثاءب بغتة ، ومالبث أن أجاب بنعاس:
" ألا تعترضين على التغيرات التي قمت بها؟ "
فأسدلت أهدابها ،ونظرت اليه نظرة جانبية ،وراته يتثاءب مجدداً.
" بالطبع لا.لقد أحلتها غرفة دافئة جداً، وأنا أحب الجدران المشمشيه اللون.لا بد أن المنظر رائع صباحا حين توشك الشمس على الشروق.ويا للصور الكثيرة! هل ترسم؟
فأقر بلهجة عادية:
" رسمت بعض هذه اللوحات المائية "
" حقاً؟ أيها؟ "
ومالبثت أن خطت الى داخل الغرفة، ونظرت الى احداها ،فيما دنزل يتبعها وهو يتثاءب بتشنج.
" نعم رسمت هذه. "
فقالت وقد تفاجأت برسمه المتقن:
" إنها جيدة جدا ً"
إنه يستطيع الرسم فعلاً.ومع أن المنظر الطبيعي حوى تفاصيل قليلقة، إلا ان الخطوط السوداء حملت قوة وتاثيراً لفتا انتباهها.
هز كتفيه بلا مبالاة، وعلق :
" هذا رسم تخطيطي لخلفية في فيلم لي. كنت بحاجة الى تخيل كل تفصيل قبل أن أبدا التصوير، والى درس كل إطار كي نحدد ماسنحتاجه.انظري، هذا مشهد داخلي في منزل، من فيلمي الاخير"
نظرت الى الرسم، واستعادت ذكرى مبهمة لمشهد من الفيلم هذا، وهو مشهد شديد الحميمية تقوم فيه الممثلة الايرلندية المكسيكيه بالرقص لحبيبها. ولما تثاءب مجدداً، رمقته بنظرة جانبيه سريعة ، فتمتم بعبوس :
" آسف لقد أخبرتك أنني مرهق, ولكنني لم أدرك أنني بهذا الارهاق"
وسرعان ماترنح الى الوراء ، وتهالك فجأة على السرير ، وهو غارق في الحيرة ،فتقدمت كلير نحوه، ووضعت يدها على جبينه.
" لعل فيروس الانفلونزا المنتشر حالياً قد أصابك.ومع أنه فيروس قوي جداً، الا أنه لا يدوم سوى أربع وعشرين ساعه. والان ، من الافضل أن تستلقي. "
" لا أستطيع. فعلي أن أوصلك الى الاسفل... "
ثم سكت قليلاً قبل أن يكمل :
" يا إلهي ،كم اشعر بالغرابة! "
أرجعته كليير بلطف الى الوراء، فلم يبد أي مقاومة ،بل ترامى ببساطة على السرير، ثم أغمض عينيه وهو يدمدم : "رأسي..."
وساد السكون الا من صوت تنفسه الناعم ، فنام مفتوح الفم، متورد الوجه.
مالت كلير فوقه ، وأنصتت وهي تراقبه بعزم .انه في حالة سبات عميقة .وشعرت بنفسها حائرة بين الذهول والانتصار.لقد نجحت خطتها ، من دون أن تصادف أي مشكلة على الاطلاق! في الواقع ،كانت خائفة من ألا تؤثر الحبوب المنومة إلا بعد وقت طويل، فضاعفت الجرعة التي وصفها الطبيب، ونالت ماتتمنى بسرعة.
وأخذت نفساً عميقاً، اذ لا يمكنها اضاعة الوقت في تهنئة نفسها.
أمامها الكثير لنتفذه، ولا تعرف كم من الوقت سيتطلب منها ذلك ، كما لم تكن متأكدة متى سيستيقظ، قد يستيقظ بعد خمس دقائق أو خمس ساعات، عندما زارت الطبيب طلباً لهذه الاقراص، وهي تختلق أعمالاًَ كثيرة منعتها من النوم، وسببت لها إرهاقاً شديداً، حذرها من أنها قد تستيقظ مجدداً خلال الليل.وفي هذه الحالة ،يجدر بها ألا تتناول قرصاً آخر نظراً لقوة مفعول الحبوب،وعوارضها الجانبية الخطيرة.
تصنعت كلير الهلع وسألته: "وماذا لو نسيت ، وابتلعت قرصاً إضافياً، أيعد هذا خطيراً؟ "
فأجابها :
" في الواقع ،يمكنك مضاعفة الجرعة من دون أي نتائج سلبيه في المرة الاولى ، على ألا تمسي هذه عادة .المشكلة ، أن الناس اعتادوا هذه الأقراص .وهم يستيقظون ليلاً، وينسون كم قرصاً تناولوا، فيتناولون واحداً إضافياً! لذا ،سيكون من الافضل لو أبعدت هذه الاقراص عن سريرك. وأعيديها الى خزانة الادوية ما إن تأخذي جرعة قبل النوم"
عبست كلير ، وهي تنظر الى وجه دنزل المستغرق في النوم .لم تكن تريد أن تسبب له أي أذى ، ولو كان يهدد سعادة أختها. ولما أضغت الى تنفسه المنتظم ، بدا لها طبيعياً، فقررت أن تباشر العمل. خلعت أولاً ذلك الرداء الأسود من الساتان ، الذي أعاقها كماه عن تقييد معصمه. ولم يكن من السهل عليها ، أن تتعامل مع جسده الهامد ،فأضطرت الى الركوع بجانبه قرب السرير.حاولت أن ترفعه بذراع واحدة ،ثم أسندته برجلها، الى أن نزعت رداءه.ووضعت القيود في معصميه،ثم أقفلتها ،بعد أن ثبتت طرفها الآخر في حديد السرير ، وأخفتها بحرص وراء كومة من الوسائد...واستنتجت أن دنزل يحب العيش المريح، فالملاءات غالية الثمن، وتناسب طراز الغرفة الجديد. وحين أنزلته ثانية ، لاحظت أن أزرار بيجامته قد فكت بطريقة ما، أثناء صراعها معه. وما بين ثنايا قميصه، لمحت كتفيه المسمرتين الناعمتين. شعرت بحلقها يجف ، وما كان منها الا أن اشاحت بنظرها بعيداً.فهي لا تريد أن تلاحظ هذه الناحية فيه. مدت يدها الى سترته بغضب ،ولكن دنزل تحرك في هذه اللحظة، وهو يصدر أنيناً وكأنه على وشك الاستيقاظ.
فوثبت كلير من مكانها، وابتعدت عن السرير وهي تعيره آذاناً صاغياً، وتراقبه بحذر .لكنه تحرك ببطء ،ثم حاول الالتفات الى الجانب الاخر، لكنه عجز عن ذلك ، نظراً الى أن يديه مقيدتان فوق رأسه. واذا بتقطيبة تعلو جبينه، وتدفع كلير الى حبس أنفاسها، لكنه مالبث أن سكن ثانية. وعادت كلير الى السرير ، فخلعت عنه خفيه الجلديين ، من غير أن تستطيع منع نفسها من تأمل رجلية الكبيرتين والأنيقتين ، وأصابع قدميه الرشيقة.
وسرعان ما تأوهت ، وأنبت نفسها :
" ركزي على ما تفعلينه ، وكفي عن النظر اليه !"
أخرجت على عجل حبل غسيل من حقيبتها ، وبدأت بتقييد قدميه، فأصبح عاجزاً عن النهوض ، مما ناسبها تماماً.
ورأت هاتفاً الى جانب سريره فأبعدته عن القابس وعن متناول يده ، لكنها تركته في الغرفة ،لانه يشكل قسماً أساسياً من خطتها، إذ ستطلب منه الاتصال بلوسي ما أن يستيقظ.
ثم أكملت عملها بتقييده بسلسلة قوية جداً.وبعد أن انتهت ،ألقت نظرة فاحصة على دنزل ،فوجدته ما يزال يغط في النوم .نزلت السلالم على مهلها ، وأعدت كوباً من القهوة ، ثم عادت تنتظر في الاعلى. وفي هذا الوقت ، نظرت الى خزانة الكتب، ووقعت على نسخة لقصص شرلوك هولمز.مع أنها حاولت القراءة، إلا انه كان من الصعب عليها أن تركز اهتمامها على سرد واطسون. وبقيت عيناها تنتقلان من الصفحة الى جسد الرجل نصف العاري الممدد على السرير.
كان كل نفس يستنشقه يرفع صدره العاري وينزله في حركة مستمرة .كانت الغرفة دافئة ،لكنها ادركت فجاءة انه يشعر بالبرد،فحرارة الجسم تنخفض اثناء النوم.وهكذا ،تقدمت منه ،ورفعت اللحاف لتغطيه.
وفيما كانت تنحي فوقه ،أبصرت أهدابه ترفرف، فتسمرت في مكانها .وخيل اليها أنها رأت وميضاً بين رموشه يتألق لبرهة قبل أن تسكن أهدابه مجدداً.
لعله كان يحلم ...وراحت تراقب رموشه السوداء، الكثيفة فوق خديه المتوردين ،ثم تساءلت في سرها: " ترى بماذا يحلم؟ "
واستبد بها القلق خوفاً من أن تعلو حرارته.ولا مست يدها خديه بلطف، وارتاحت لما تغلغل فيها دفء بشرته من دون اثر لحمى.
كان من الافضل لها أن تعود الى كتابها، لكن الرغبة في استراق النظر إليه في غفلة عنه بدت أقوى منها، فجلست على حافة السرير، وامتدت أصابعها بتمهل لتلامس كتفه العاريه.وسرعان ماسرت فيها قشعريرة بطيئة ، وكأن أشواكاً وخزتها. ورغم ذلك، حاولت أن تفكر بمنطق. لكنها لم تكن ترى الا جسمه الرفيع، وقد زادته يداه الممتدتان فوق رأسه طولاً. فتذكرت كيف طال طيفه في حلمها ليلة الميلاد ، ثم أغمضت عينيها ، وتنهدت بتأثير من الذكرى. وامتدت أطراف اصابعها حتى وصلت الى وجهه. بدت لها ذقنه وكأنها لم تحلق منذ مدة، وكأنها طيف أسود على بشرته. وجف حلقها ،قبللت شفتيها بعصبية، ثم ابتلعت ريقها، وقد علا الاحمرار وجنتيها ، وارتفع تنفسها بصوت مسموع.
كانت تتحرق شوقاً الى ضمه والتوت معدتها في شعور جعل أوصالها ترتعد خوفاً.فبقيت عيناها لاتفارقانه وهي تعرف انه لايشعر بارتجافها، ولن يدرك شيئاً عنه.
وفي هذه اللحظة ، تقلب وجهه على الوسادة.فحدقت في عنقه الطويله القوية، وقد استرخت عضلاته في أثناء رقاده،ثم تذكرت مجدداً ذلك الحلم الذي راودها ليلة الميلاد ،فشعرت بالعجز والوهن يستبدان بها. أما الان،فهو العاجز والواهن، وهو الواقع تحت رحمتها. مالت اليه بعنف، ودفنت وجهها في عنقه. لكنها مالبثت أن فكرت في غباء ما أقدمت عليه ،بل في جنونه. ماذا تفعل بحق السماء؟ ماذا لو استيقظ ورآها على هذه الحال؟ ماذا تراه سيظن حينها؟ وسرعان ماجلست مجدداً، فاذا بدبوس من اللؤلؤ ينفك من سترتها، ويخدش صدره العاري، راسماً قطرة دم صغيرة عليه.
أغلقت كلير الدبوس ، وهي تحدق في نقطة الدم على بشرته .ومع أنه خدش سطحي .إلا ان منظر الدم سحرها، فأغمضت عينيها، تسترجع حلمها الجميل.
وبعد دقيقة ،فتحت عينيها، ثم رفعت اللحاف فوقه، وتوجهت الى كرسيها، وهي تجاهد لتركز على كتابها. وبعد حين ،غرقت في سبات عميق، لم تستطع مقاومته رغم القهوة المركزة .فمال رأسها على ذراع المقعد الجلدي، وسقط الكتاب أرضاً من غير أن يزعجها.
أما ما ايقظها، فصوت الرجل على السرير. لا بل أنينه وحركته ومن ثم صيحة التعجب التي صدرت عنه.
أفاقت كلير، وقد فقدت حس الزمان والمكان. ولثانيه، ظلت عاجزة عن تذكر مكانها، وما يجري من حولها. وما ان تذكرت ، حتى التفتت الى السرير.
كانت عينا دنزل مفتوحتين تماماً، فيما جسده يصارع للنهوض، فيشد على القيود، ويرفس قدميه المكبلتين بعجز:
" ما هذا بحق الجحيم؟ "
ليلة العقاب

وعندما نهضت كلير من مكانها ، التفت دنزل اليها بحدة. فلاحظت المفاجأة في عينيه الرماديتين اللتين لم تتسعا الا لتضيقا مجدداً.
لوح اللون وجهها تحت وطأة نظراته، ثم تمتمت :
" أنا آسفة "
"هل انت من فعل هذا بي؟ "
وتلمست في صوته شكاً استطاعت أن تفهم سببه.
" بحق الجحيم، كيف....بماذا ضربتني؟ "
" لقد دسست حبوباً منومه في شرابك. "
حدق فيها بمزيج من الثبات والعبوس:
" ماذا؟ ان كنت تعتبرين ذلك مزاحاً، فأنا لا أجده مضحكاً البته "
وعاد يشد بقوة على معصمية الحبيسين، مضيفاً:
" فكي هذه الاشياء اللعينه عني! "
فدنت من السرير ، وهي مطمئنه الى انه لن يسمك بها، ثم شرعت تشرح له بصوت أجش وكلمات سريعه:
" أنا آسفه لأنني استخدمت هذه الطريقة ،لكن لم يكن بوسعي التفكير في طريقة أخرى .وكان علي أن أوقفك عند حدك، فلن أدعك تدمر حياة أختي. في الغد ،سأبعد لوسي، وأدفعها الى اللحاق بخطيبها في أفريقيا. أما لو خضعت لتجربة الفيلم ، ونالت دوراً صغيراً في فيلمك المقبل، فستفسخ خطوبتها بمايك. وأعلم أنها سترتكب خطأً فظيعاً، فلوسي تحبه ، ولكنها لن تعود الى رشدها الا بعد فوات الاوان.لذا على ان امنعها من التقدم لتجربة الفيلم غداً. ولم استطع التفكير الا في طريقة واحدة ،وهي منعك من اصطحابها. وبما انني أعرف انك لن تستمع الي المنطق ان حاولت أن اقنعك ،لذا... "
ثم توقفت ، وقد منعتها أنفاسها المخنوقة من متابعة جملتها،فتمتم دنزل من خلال أسنانه المطبقة:
"يا إلهي ، انت مجنونة تماماً! "
وبدأ يناضل مجدداً ،وهو يجذب قيوده بعنف ، ويحاول أن يقطع الحبل الذي يكبل رجليه معاً.
فقالت كلير :
" أنت تضيع وقتك وطاقتك سدى "
عندها التفت اليها، وحملق فيها فيما التوت شفتاه كذئب هائج، وصرخ:
" اللعنة عليك، فكي عني هذه !"
فهزت رأسها بعناد:
" كلا، وان بقيت تصارع هذه القيود ،فلن تؤذي الا نفسك "
أخذ نفساً عميقاً وكأنه على وشك الانفجار وقال:
" افتحي القفل إذاً! "
وثارت أعصابه لما سمع الصرير المزعج في صوته. ورغم انه مقيد وعاجز بهذا الشكل، بدا قادراً على اثارة الرعب فيها. لكن من الضروري الا يلاحظ أنه يخيفها ،لذا جاهدت لتحافظ على هدوء وجهها وجموده. أما هو ،فاستلقى مجدداً وهو يتنفس بخشونه، ويراقبها وقد بدا مطرقاً مفكراً وما لبث أن حاول مقاربة مختلفة .ابتسم لها ببطء، وقد تبدلت ملامح وجهه، واتسمت نبرة صوته بالنعومة والمنطق والسحر المتملق.
" حسناً لقد فزت يا كلير .لن أخضع لوسي لأي تجربة في الغد، أعدك بذلك. هل أنت راضية ؟ والان فكي هذه القيود. "
فهزت رأسها ،لترى ذلك المنطق اللطيف يتلاشى من وجهه، وبريقاً عنيفاً يستقر في عينيه.
" حين أتخلص من هذه ستتمنين لو أنك لم تولدي قط. "
فابتلعت ريقها في الواقع، كانت تعرف انه ينطق بالحقيقه ، لكن عليها ألا تفكر في ذلك الان ، بل ستتركه الى وقت لاحق وهي لا تشك في ان القلق سيتملكها حينها.
ولما هدأ دنزل مجدداً، وراح يرمقها مقطب الجبين ،أعلنت ببساطة:
" أريدك ان تتحدث الى لوسي "
بدا وكانه مستعد لتصديق اي شيء الان وسألها :
" أهي هنا أيضاً؟ "
" بالطبع لا. "
وحانت منها التفاته الى ساعتها ، التي اشارت الى الحادية عشر والنصف .لابد ان لوسي عادت من السينما، وفي طريقها الى السرير والوقت الملائم للاتصال بها الان.
ووصلت الهاتف بالقابس من جديد ، قبل ان تواجهه والسماعه في يدها :
" أولا ،عليك أن تعدني بان تخبرها بما أقوله لك تماماً، من دون أي كلمة أضافية "
فتساءل وعلى وجهه تعبير قلق غامض:
" ولماذا أفعل هذا؟ "
" لأنك لن تتخلص من هذه القيود حتى تقوم بهذا الاتصال. "
ضحك ، لكن عينيه لم تعكسا أي مرح:
" لا يمكن ان تكوني جادة! "
" بل أعني كل كلمة اقولها.فإما أن توافق على اجراء هذا الاتصال ،واما أن اذهب وأتركك على هذه الحال طيلة الليل. "
فتبدل مزاجه ثانية،ثم زمجر بغضب شديد:
" قد تعتبرين الامر مزاحاً، لكنه ليس مضحكاً.ولن يجد القانون ذلك مضحكاً بدوره. أتدركين عقوبة جريمة كهذه ؟ستحاكمين بتهمة الاعتداء والاحتجاز القسري.وقد تسجنين
مدة طويلة جداً. وصدقيني لن تحبي حياة السجن كثيراً، فهي غير سارة أو مريحة ،لاسيما لفتاة مثلك "
وسرعان ماسرت قشعريرة في بدنها،لكنها قررت ألا تتراجع. فقد فات اوان القلق عما يحدث لاحقاً، حين يتحرر .لذلك ،ستمضي قدماً في خطتها ، خاصة أنها أنجزت منها مايمنعها من الاستسلام. قالت ببرودة :
" لا أظنك سترغب في إخبار الشرطة أن امرأة أقدمت على تقييدك الى السرير.وقد يسخر السؤولون منك "
فومضت عيناه ، ثم رأت اسنانه تطبق وكأنه يريد ان يقطع رأسها .
ومالبث أن أضافت ، وهي تهز كتفيها استخفافاً:
" وحدث عن الدعايات التي ستنتشر ما إن يسمع الناس بالقصة، وسيقبل الصحفيون الى البلدة سعياً وراء القصة، وتتحدث الجرائد عنها بالصفحات ،يوماً بعد يوم. باستطاعتي أن أتصور العناوين منذ الان .وسيحب الناس القصة، لكن ماذا عنك أنت؟ يمكنني أن أتخيل الدعايات التي سيطلقونها .فكر في الامر.صحيح أنني قد أزج بالسجن .لكنك ستمسي محط سخرية الجميع "
رأته يستغرق في التفكير، وكأن وجهه ساحة معركة .بعد ذلك ،نظر اليها وكأنه يرغب في قتلها. فتريثت لثانية،ثم أضافت:
"سأرحل بعد دقائق ، ان لم تجر الاتصال .لذا ،اتخذ قرارك. "
جمد لبرهة وهو يرمقها ، ثم تمتم بجفاء:
" ماذا تريدين مني ان اقول لها؟ "
عندئذ، خالجها شعور مزعج بالارتياح.ما ان يتصل بأختها حنى تسير خطتها في في مسارها السليم.
" أريد أن تخبر لوسي أنك آسف لأن تجربة الفيلم قد ألغيت ، وعليك الرحيل ، وأنت غير متأكد من موعد رجوعك. "
فتشدق في كلامه ، وهو يرفع حاجبيه الاسودين بتساؤل:
" وماذا يمنعني من اجراء اتصال آخر ما أن تحرريني؟ "
" حينها ،ستكون لوسي في طريقها الى المطار. "
رأته يعاود التفكير في المسألة :
" لكنك قلت إتك ستفكين هذه القيود ، ما إن اتصل بأختك "
" سأفعل ، لكنني لن أتركك هنا وحدك، ولن تجري المزيد من الاتصالات. "
ولمحت وميضاً في عينيه وهو يسألها :
" أتنوين أن تلازميني الليل بطوله؟ "
لم تحبذ تلك النظرة التي رمقها بها، بل لم تعجب بذلك التعبير على وجهه .لكنها تظاهرت بعدم الفهم،وأجابت بسطحية:
" معظمة، نعم...حسناً ،أستجري الاتصال، ام لا؟ "
فنحها ابتسامه ساخرة وأجاب :
" حسنا ً"
شرعت تقول له:
" أخبرها فحسب..."
فقاطعها :
" اعرف ما تريدينني أن أخبرها "
" لاتضف أي كلمة او تنقص ، والا قطعت الخط قبل ان تحاول. "
ومع أنه لم يجب، لكن ملامح وجهه عكست الاجابة الشافية.
بعدئذ، طلبت كلير الرقم ، وانتظرت حتى ارتفع صوت لوسي وهو يقول بتردد: " آلو؟ "
فرفعت السماعة الى فم دنزل ، وهي على استعداد لخطفها أن لم يلتزم بما أرادته .لكنها سرت لما سمعت صوته عادياً، خشناً:
" لوسي؟ انا دنزل .اسف ان ازعجتك في هذه الساعه المتأخرة، لكن علي الرحيل لمدة واخشى أن تجربة الفيلم الغيت "
سمعت لوسي تغمغم ،وتخيلت شعور أختها في هذه اللحظة ، ثم انحنت لسماع كلماتها، فإذا بشعرها الحريري الفاتح يلامس وجه دنزل، أحست بعدها بتيار كهربائي دفعها الى الابتعاد بسرعه،فيما عيناه الرماديتان لا تفارقانها. لكنه لن يعرف أن هذا الاحتكاك البسيط جعل قلبها يدق كمطرقة بين أضلعها ،ونبضها يتسارع حتى يفوق كل تصور...
وبينما هي لا تزال تقرب السماعه من فمه ،تابع كلامه :
" لوسي ،لا أملك أدنى فكرة متى أتفرغ لرؤيتك ثانية "
وفي هذا الوقت ظل نظره عالقاً بوجه كلير ، والسخرية تملأ عينيه، وهو يضيف :
" في هذه الاوقات ، اشعر أنني مقيد ، وأنني لست سيد نفسي "
فاستشاطت كلير غضباً،وهي تسمع المعنى المبطن ، وترى فمه يلتوي بتسلية لم تشاركه أياها.
استرجعت السماعه بسرعة ،وأضغت الى لوسي وهي تقول بصوت بالك:
"دنزل...ولكن ماذا عن الفيلم ؟ألن تصوره ؟ظننت أنك متأكد من أنني أناسب هذا الدور. الا يمكنك أن تجري التجربة لاحقاً؟ أم أنك وجدت ممثلة أخرى؟ أهذا هو السبب ؟"
وسمع دنزل ذلك بدوره، فالتفت الى كلير .ولما لم تعجبها الطريقة التي رمقها بها،همست :
"قل لها وداعاً. "
بعدها قربت كلير السماعه منه من جديد فتمتم دنزل بلطف غامر:
" أخشى أنني مجبر على توديعك الان يا لوسي .انا آسف "
وبعد ان أعادت كلير السماعه الى مكانها ،استقامت متنهدة ، ثم نزعت الهاتف من قابسه مجدداً.
" علي ان أعود الى المنزل الآن، وأقنع لوسي بأن تلحق بمايك غداً. "
فتصلب قبل أن يهتف:
" لقد وعدتني أن تفكي هذه القيود ! ففكيها... هذا الاحساس بالعجز يقودني الى الجنون"
ابتسمت كلير ابتسامة باردة ساخرة وقالت :
" انا سعيدة لأنك أدركت ذلك اخيراً! "
" ماذا يفترض أن يعني ذلك؟ "
" الآن فقط ،تدرك شعور ضحاياك! "
" ضحاياي! لقد استعملت هذا التعبير قبلاً، وأنا لا أدرك الى الان عما تتحدثين بحق الجحيم. "
" آه لا، أنت بالطبع لاتدرك ذلك! "
فزمجر:
" وكفي عن هذه اللهجة الساخرة ! إن كان لديك ماتتهميني به، تفضلي .لكن دعي هذه التلميحات المبهمة "
" لقد تسببت بمرض هيلين..."
" هيلين تسببت بمرضها بنفسها! لقد تشاجرت مع زوجها ، وتطلقا.لكنها لاتزال مغرمه به ،وتعيسه لفراقه. وهذا ماسبب مرضها، وليس انا. "
" لعلها أحبت بول طيلة ذلك الوقت ،لكنها فقدت عقلها من أجلك...وأخبرتني نفسها كم شعرت بالعجز. تذكر أنني رأيتها معك ،ورأيت الحالة التي عانتها بسببك. "
فأسدل أهدابه ،واخذ يراقبها من خلال رموش سوداء، فيما عيناه تلمعان كما النجوم الفضية في سماء مظلمة.
" يبدو أنك تهتمين كثيراً بعلاقاتي مع النساء الاخريات. "
تورد وجهها ،ونظرت اليه بغضب قائلة:
" هيلين صديقتي، ولوسي أختي "
فتشدق في كلامه ، مما ضاعف غضبها:
" أهي غلطتي إن وجدتني كلاهما جذاباً؟ "
" لقد أخضعتهما لتأثيرك، وكأنك مصاص دماء عاشق! فتوقفتا عن التفكير بعقل .وبعد ان تغلبت هيلين على مشاعرها نحوك ، أخبرتني كيف شعرت....بالهوس، بل كانت عاجزة عن التفكير في أي شيء آخر، وسعت بعجز الى فك الاغلال التي تربطها بك."
ثم نظرت اليه فجأة ،وقهقهت ، من الغضب الخالص البارد الذي استبد بها.
وما لبثت أن رمته أخيراً بتلك الكلمات :
" تماماً كعجزك أنت الان! "
راقبت ردة الفعل على وجهه ، وعرفت أنه لم يحبذ هذه الفكرة .بعدئذ، اضافت بصوت خافت تشوبه المرارة:
" تماماً كعجزي حين كنت في الطابق السفلي، وتراجعت الى الجدارن وقلت لي إني سجينتك "
ولم يأت حركة، بل نظر اليها وقد استحوذت على كامل انتباهه وتمتم بهدوء:
" كنت أمزح،وهي مجرد لعبة "
فجلست على حافة السرير وسألته:
" لعبة؟ حقاً؟ لقد لمستني ضد إرادتي ،اتذكر ذلك؟ هكذا..."
وبتمهل ، مررت إصبعها الطويل على جسده، وأحست بالتوتر يتسلل الى جسده كله.
" العجز هي الكلمة التي استخدمتها .لقد قلت إننا في حرب، وانني سجينة عاجزة .والآن ،انظر من هو السجين. كيف تشعر؟ "
بدا ذاهلاً، حين مررت إصبعها برفق على وجهه :
" مالامر؟ يبدو وكأنك تعتقد أنك كنت تمزح فعلاً في الاسفل.لكني لاحظت أنك استمتعت فعلاً بتلك اللعبة التي لعبتها معي. "
واستمرت تتلمس تفاصيل وجهه ، من خديه ، الى أنفه، فعينيه وحاجبيه.
" كنت اللعبة التي تسليت بها، أليس كذلك؟ لقد تجاهلت كل احتجاجاتي ، واستغليتني بإحدى ألاعيبك الصبيانيه، ولكن ، يمكن لشخص اخر ان يشترك في اللعبة. "
واستمتعت بإنكاره،وهو لايصدق ماذا يحدث له! ثم مالت نحوه،فغمر وجهه شعرها الاشقر، قبل ان تهمس في أذنه:
" الآن حان دورك لتكون لعبتي! "
وشعرت أنه يحاول نزع القيود ، فضحكت ثم نظرت الى وجهه الغاضب، وعينيه اللامعتين.


 
 توقيع : عاشقة الدموع


إن قـدر الله مـع الأيـآم نتـوآآجـه
تمـر مثلـك مثـل نآس(ن) يمرونـي
في عيوني تصير مآتسـوى ولآ حآجـه
من عقب مآكنت تسوى الناس في عيوني


رد مع اقتباس